بقلم: د. حسين عبد البصير
تكملة للعدد الماضي:
إن ما قدمته رشيد، المدينة المصرية العريقة، من خلال هذا الأثر الفريد، وما قدمه من قبل الكهنة المصريون المبدعون أرباب العلوم والفنون والآداب في العالم القديم في ذلك النص المذهل المكتوب بخطوط عدة، وما قدمه العلامة الفرنسي جان-فرانسوا شامبليون وسابقوه من علماء وباحثين عن المعرفة باجتهاد، يعد عملاً خالدًا يكمل بعضه بعضا في فترات زمنية متقطعة على وجه الزمن ويرسل كل من تلك الأطراف المشاركة في ذلك العمل الإبداعي الكبير برسالة للآخر ويصل مضمونها بكل تأكيد إلى الآخر مهما طالت السنون؛ لأن العطاء الإنساني ينبع من نهر واحد تأتى الحضارة المصرية العريقة على بداية حين خطت بالإنسانية خطواتها الأولى نحو الكتابة والمعرفة وتدوين التاريخ والتمدن والتحضر بعد أن عاشت البشرية عصورًا طويلة في فترات مديدة من عصور ما قبل التاريخ التي أنهت مصر العظيمة أزمانها السحيقة وخطت بها خطواتها الأولى نحو معرفة الإنسان المعاصر بأصوله المصرية القديمة التي يكن لها الجميع في العالم كله الإجلال والاحترام والشكر والتقدير في كل زمان ومكان؛ فمصر هي معبد وقدس أقداس العالم قديمة وحديثه.
ومن خلال اكتشاف حجر رشيد وفك رموز اللغة المصرية القديمة، تبين للعالم أجمع أن مصر هي مهد وأرض الحضارات؛ ففي مصر ولد التاريخ والحضارة البشرية منذ آلاف السنين، وأينما تذهب تجد حتمًا جزءًا ما من تاريخ مصر وكذلك من تاريخ العالم، لذا فلن نكون مخطئين إذا قلنا إن مصر والتاريخ توأمان متماثلان في كل شيء. فقد ظهرت الحضارة مبكرًا في وادي النيل ودلتاه المصريتين. ويجد المرء أنه من الصعب اختيار نقطة زمنية معينة يسرد منها قصة التاريخ المصري المثيرة والشيقة؛ فمصر موغلة في القدم قدم الزمن نفسه. وإذا تغاضينا عن البداية المبكرة لظهور الإنسان على الأرض المصرية، والذي كان ظهوره من بين أوائل الأجناس البشرية التي عرفتها القارة الأفريقية، فإن معرفة المصري القديم لحرفة الزراعة المنظمة والمستقرة على ضفاف نهر النيل العظيم في حوالي الألف السادسة قبل الميلاد تعد، في رأيي؛ هي البداية الحقيقية لنشأة الحضارة المصرية التي سوف تستمر آلاف السنين. وشكل نهر النيل المصدر الأساس لنشأة هذه الحضارة المصرية العريقة التي جعلت «أبو التاريخ» المؤرخ الإغريقي الأشهر «هيرودوت» يصف الحضارة المصرية بـ«هبة النيل»، وهو وصف لا يخلو من منطقية ووجاهة، غير أن صحة وصفه يجب أن تكون على هذا النحو «مصر هبة النيل والمصريين»؛ فلولا المصريين لما نشأت الحضارة المصرية العظيمة على ضفاف النهر العظيم الذي يمر بدول أفريقية عديدة لم تنشأ بها حضارات بلغت ما وصلت إليه الحضارة المصرية من تقدم واستمرارية وازدهار. وجاء نهر النيل من دمع الربة إيزيس، حسب الأسطورة المصرية القديمة. وكان يمتاز الإنسان المصري – البناء العظيم صاحب ومشيد هذه الحضارة الفريدة – بحب العمل وإتقانه والدأب والصبر والصمت والهدوء والحلم وتحمل الشدائد والإيمان والتسامح.
وتقع مصر في الركن الشمالي الشرقي من القارة الأفريقية وتمتد في جنوب غرب آسيا من خلال شبه جزيرة سيناء، بوابة مصر الشرقية والمدخل الرئيس للغزاة إلى الأرض المصرية عبر التاريخ. وجعل هذا الموقع الجغرافي المتميز من مصر ملتقى للحضارات وبوتقة لتلاقي الثقافات، وجعل كذلك منها مطمعًا للغزاة والطامعين والمحتلين عبر تاريخها الحضاري الطويل.
وتعددت الأسماء والصفات التي أُطلقت على مصر، خصوصًا في مصر الفرعونية. وجاء اسم مصر في اللغة الإنجليزية «إيجيبت» من التعبير المصري القديم «حوت كا بتاح» – ويعني «معبد قرين بتاح» – وهو اسم معبد مصري قديم خُصص للمعبود المصري القديم «بتاح»، إله مدينة «منف»، العاصمة المصرية القديمة. وينتمي المصريون إلى الجنسين السامي والحامي. ويطلق المصريون على مدينة القاهرة، العاصمة، «مصر»، مختزلين اسم بلدهم في عاصمتهم.
وتبدأ قصة الحضارة المصرية المكتوبة في حوالي العام 3000 قبل الميلاد، حين أبدعت مصر القديمة الكتابة وأدخلت العالم إلى دنيا التدوين فتراكمت الخبرة الإنسانية والتراثية وحافظت على الذاكرة البشرية من الضياع. وهذا العصر هو عصر المركزية والذي سوف يستمر طويلاً ويصبح سمة غالبة للإدارة المصرية عبر تاريخها الطويل خصوصًا في عصور القوة، وسوف يتحول كثيرًا إلى عقبة في مسيرة التنمية والقضاء على المركزية في صنع القرار. وبتوحيد مصر العليا (الصعيد) ومصر السفلى (الدلتا) في مملكة واحدة، وقيام الدولة المركزية على يد الملك «مينا»، استقرت في هذه الفترة المبكرة قيم ومعايير سوف تحكم الدولة المصرية وتصبغ الشخصية المصرية إلى الآن. وبعد هذا التاريخ المبكر الذي اشتمل على الأسرتين الأولى والثانية، دخلت مصر عصر الدولة القديمة والذي يعرف أيضًا بـ«عصر بناة الأهرام»، وفيه شيد المصريون الأهرام المصرية الشهيرة في الجيزة وسقارة ودهشور وأبورواش وأبوصير وغيرها، ونحتوا تمثال «أبو الهول» الشهير فوق هضبة أهرام الجيزة ممثلاً في الغالب الملك خفرع باني الهرم الثاني بالجيزة. وتقف الآثار المصرية شامخة شاهدًا ودليلاً على عبقرية الأداء وروعة الإنجاز والإعجاز المعماري والهندسي والفلكي والإداري الخاص بالمصريين القدماء.
وبعد ذلك العصر الذهبي، مرت مصر بفترة اضمحلال، خرجت مصر بعدها قوية إلى عصر الدولة الوسطى، حين وصل الأدب المصري القديم إلى القمة، ويعرف هذا العصر بـ«عصر الأدب الكلاسيكي». وبعد هذا العصر الذهبي، مرت مصر بأصعب محنة عرفتها في تاريخها الفرعوني القديم كله، ألا وهي احتلال أرض مصر من قبل قبائل أجنبية، تعرف بـاسم «الهكسوس»، (وتعني «حكام الأراضي الوعرة» في اللغة المصرية القديمة)، تسللت بطريقة سلمية في غفلة من الزمن إلى مصر عبر حدودها الشرقية وبسطت سيطرتها على أجزاء كبيرة من الأرض المصرية حين ضعفت مصر القوية. وبعد كفاح طويل ومرير، استطاع الملك المصري الجنوبي الشهير، «أحمس الأول»، طرد الهكسوس من كل الأرض المصرية ودفعهم إلى الهروب إلى فلسطين. وبتحرير مصر من الهكسوس، نشأت الدولة الحديثة، العصر الذهبي الثالث والأخير في مصر الفرعونية، والذي يعد واحدًا من أروع فترات الازدهار في تاريخ الحضارة الفرعونية القديمة. وخلال ذلك العصر، اتبعت مصر سياسة خارجية جديدة جاءت كرد فعل على محنة احتلال الهكسوس لأرض مصر. وقامت هذه السياسة على التوسع في الفتوحات الخارجية وضم العديد من الإمارات والممالك إلى زمرة السيطرة المصرية، وهذا ما يعرف بـ«عصر الإمبراطورية» في مصر الفرعونية. ويعد الفرعون تحتمس الثالث هو مهندس الإمبراطورية المصرية في آسيا وأفريقيا. ومن بين أشهر الملوك الفراعنة في هذا العصر، أحمس الأول وحتشبسوت وتحتمس الثالث وأمنحتب الثالث وأخناتون وتوت عنخ آمون وسيتي الأول ورمسيس الثاني وغيرهم. وبعد ذلك العصر، دخلت مصر ما يعرف بـ«عصر الانتقال الثالث» وفيه ساد التوتر والانقسام والا مركزية الأرض المصرية. ثم جاء العصر المتأخر وحكمت فيه مصر أسرات مصرية، مع بعض فترات من الاحتلال الفارسي، إلى أن جاء الإسكندر الأكبر، وعلى يديه وعلى أيدي خلفائه الملوك البطالمة، تحولت مصر إلى مملكة إغريقية- بطلمية. وبهزيمة الملكة البطلمية الشهيرة كليوباترا السابعة على يد الرومان، انتهت حكم مصر البطلمية وصارت مصر جزءًا مهمًا من الإمبراطورية الرومانية.
كانت قصة اكتشاف مصر الفرعونية وفك أسرار حضارة الفراعنة هي اللحظة التي علمت فيها البشرية مجدها القديم حين ساد العلم وتجلت الحضارة البشرية في أروع صورها ممثلة في مصر القديمة سيدة الحضارات ومعلمة البشرية وفاتحة التاريخ وقاطرة الحضارة. إن سحر مصر الفرعونية ما يزال بيننا يخلب أبصارنا ويسحر عقولنا وينير طريقنا؛ فتحية حب وتقدير لمصر القديمة وحضارتها الخالدة وللمصريين القدماء أصحاب أول حضارة علّمت العالم وكانت بحق فجر الضمير الإنساني في العالم كله.
لقاءنا العدد القادم مع
توت عنخ آمون الفرعون المحظوظ