بقلم: تيماء الجيوش
تقف منارة أمام باب المدرسة تنتظر ابنتها بفارغ الصبر فقد حان وقت انصرافها ولا تدري لماذا ذاك الباب الكبير الذي يتصدر الطريق الترابي لا زال مغلقاً؟ قارب النهار على المغيب و هي لا تدع ابنتها الصغيرة تعود وحيدة. تريدها آمنة سعيدة ، ترافقها في طريقة عودتها كل يوم . تطغى لحظات حنين على تخوم ذاكرتها .
هو ذات الباب التي كانت ورائه تنهل العلم في طفولتها.
هو ذات الباب الذي احتضن سنين ستة من عمرها. لا تزال تغمرها ذكرياتٍ دافئة تعود بها إلى كتبها الملونة الجميلة ، إلى معلمتها و هي تكيل لها المديح اثر الآخر لتفوقها . انتهى كل ذلك في عصرٍ عاصف أخبرتها فيه أمها انها لن تعود ثانيةً إلى المدرسة و ان خطوبتها ستتم بعد أسبوع. تتم الأم جملتها بنيتي منارة هكذا كان حديث الرجال و هكذا وعد أبيك الرجال يا بنيتي، علينا ان نطيعه فهو أدرى بمصلحتنا جميعاً. منارة منذ طفولتها ادركت غريزياً ضعف أمها ، هي ليست سوى امرأةً بسيطة لا يوجد ما يمكن ان تورثه لابنتها سوى استلاباً أثر استلاب . لم تفهم منارة حينها كلمة خطوبة او ماذا يعني حقاً هذا الأمر . براءة سنينها الاثني عشر لم تمنحها المساحة لفهم عالم الكبار ذاك. عالمها هي كان محصوراً في بيتها ، مدرستها ، ألوانها، ألعابها. ينهي استغراقها هذا صوت الطلاب يتدفقون من الباب الخارجي كجدولٍ صغير خريره يلحُ على السمع بلطفٍ.
و أخيراً تأتي و تندفع إلى حضنها ابنتها سعيدة بما نالته من امتيازٍ اليوم. تضحك لها منارة و تداعب وجنتيها قائلةً يا صغيرتي ، يا صغيرتي . تحثان الخطى فالوقت قارب المغيب ، و بقية أطفالها الصغار في المنزل بانتظارها قريتهما تجاور البحر، تمتلئ بعبقه مساءً لتعود و تلفظه نهاراً ، تفلت ابنتها يدها و تجري نحو التل . الطريق المستقيم بين البيت و المدرسة مظللاً بالشجر الوارف ، يقف ببهاءٍ فاصلاً بين مجموعةٍ من التلال الصغيرة و الطريق . لا تستطيع تلك الصغيرة أن تقاوم رغبتها في أن تلقى بجسدها فوق العشب ، تنظر نحو منازلهم بأسطحها الملونة تختزن الحكايا و بقايا ضوء النهار ، تلحق دروب الورد و كل ما تراه يثير دهشتها ، لكم احبت منارة اتساع عيني ابنتها كلما اكتشفت شيئاً جديداً على ذلك السفح. لكم احبت فيها حلمها الذي لم تكمله . الشاطئ الذهبي يغازل أشعة الشمس المتراخية الراحلة دون صخب ، وفي البعيد تتأرجح قوارب الصيادين تستعد نحو العودة ، انتهى نهاراً مماثلاً لبقية نهاراتهم المُتعبة، فلا فائدة اليوم أيضاً من صيد فقير لا يُسمن و لا يُزبد، تتميز قارب زوجها الصغير الذي يتوسط عرض البحر، لم يعد البحر كريماً معهم كما كان، يعتصر الجباه القلق و يلتهم أيامهم دون هوادة. هي معركة للشباك الخاوية كل يوم يتيه بها الموج من ساعات الفجر الأولى لساعات المغيب لتعود خاليةً الا من النزر اليسير الذي لا يسدُّ رمق بيوتاً وأُسراً كاملةً. تسارعان لدخول المنزل الصغير ، لم يمضي وقتاً طويلاً حتى اجتمعت الأسرة كاملة ، تعيد منارة النظر إليهم جميعاً ، تحبهم ، تود ان تمُدّ ذراعيها على اتساعهما لتحضنهم. بعد العشاء ستقرأ لهم قصة . لكم احبت سماع قصص أمها تمتزج مع صوت الموج بهمس برتابة بطمأنينة ، ربما كانت أمها ضعيفةً، مستلبة ، لا قوة لها على اعتراض بل الطاعة دوماً بدون جدال ، الجدال الذي لا تجيده، لكنه لم يمنعها من ان تحمل ذاك الدفء ، لكم احبت منارة ان تلقي برأسها على كتف أمها و هي تتسائل ان كان هناك شاطئاً اخر ، إن كان للبحر رذاذاً مختلفاً . يقطع شذرات ما تفكر به صوت زوجها و هو يطلب اليها الحديث على انفراد ، تلحق به إلى مضافة صغيرة ، هناك اخبرها بما لديه، اخبرها أنه وعد شريكه بخطبة ابنتهم لابنه البكر عند انتهاء الشهر ، برأيه هذا هو الحل الأمثل لوفاء ديونه و بقاء شراكته ، هذا سيدعمهم إلى حين و لربما ستتغير الأحوال فيما بعد و يعود البحر كريماً كما كان. يحاول استمالتها اكثر بأن الحال يسير من سيء إلى أسوأ و أن هذا لمصلحة الأسرة بأكملها و مصلحة البنت و سترتها فماذا هي فاعلة حين تكبر و ماذا سيفيدها العلم . شعرت بدوارٍ مُستعر يجتاحها ، طلبت اليه ان يعيد ما قاله و حين فعل ، وجدت نفسها تصرخ ابنتي لا زالت في الثانية عشر، لا زالت طفلة بريئة ، عالمها يبدأ و ينتهي بأسرتها الصغيرة ، بكتبٍ تحبها ، بخطى تبدأها كل يوم على طريقٍ ترابي ، ماذا انت فاعلٌ بابنتي ، بابنتك أيها الجاهل. جحظت عيناه بغضب ، أي كلماتٍ يلقاها رداً على الحل الأمثل الذي وجده ، أية وقاحة أيتها العاقة، هوى بكفه على وجهها بقسوة، زاد صراخها و كأنها تودُّ أن تشق به السماء، كأنها اختزنت صراخ عمرها كله ، كأنها أطلقت ما ألمّ بها من عذاب وشجن سنين ، أطلقت صراخاً متأخراً عما حلّ بها منذ أربعة عشر عاماً حين استكانت و صمتت و لم تجد مُعيناً يدافع عن حقها في الحياة و الحلم . حين وجدت أمها من يطلب اليها الصمت . اليوم لا ، لن اكتم كلمتي ، لن أجبن عن الدفاع عن ابنتي، تخرج كلماتها مبعثرة في حنايا الصراخ ، لن أدعك تفعل هذا بابنتي ، لن أدعك . انت تعوذ من قهر الرجال كل يوم ، الا ليتك تُقهر لآخر العمر إن زوجت طفلتي . صرخاتها تتعالى و صفعاته و ركلاته لها تتوالى . هو لم يفهم ولن يفهم كلمة مما تقول، هو الآمر الناهي و هي من عليها الطاعة . تسقط على الأرض يرتطم وجهها بالأرض الإسمنتية الباردة بعنف، خيط رفيع من الدماء ينساب من انفها ثم من فمها ، فقدت الإحساس و لوهلة بجسدها .لا منقذ هناك الان سوى السماء. ولا زال صوتها خافتاً مرددًا لن ادعك تفعل هذا بابنتي ، ينال زوجها التعب يتقهقر إلى الخلف و يجلس مستندًا إلى الحائط. لا تدري كم مضي من الوقت ، لكنها بعد ساعات شعرت بيدٍ ناعمة تمسح وجهها ، بأنفاس هادئة قريبة منها وصوتاً يخرج متهدجاً أمي هل انت بخير . تمسك بتلك اليد الصغيرة تقبلها مرات تحاول ان تخبرها انها بخير فلا تستطيع ، تحث جسدها بأكمله و بتتابع على الجلوس و الاعتدال و حين تفعل أخيراً تأخذ ابنتها لحضنها قائلةً : ما دمت أنعم بأنفاسي ، لن أدع مخلوقاً يؤذيك، لن أدعهم يعيدون ما فعلوه معي، ستكبرين ، ستحققين أحلامك ، أنا أمك أنا منارة ، أنا أعدك بذلك بنيتي.