بقلم: سونيا الحداد
كان لدينا صديق فيلسوف، هنا في مونتريال في التسعينات رحل اليوم، سلام لروحه صديقي الرائع أليكسي كليموف… بلجيكي من أصل روسي، أتى مونتريال وبقي هنا، يعلم الفلسفة في جامعتها ويفتح بيته لأهل العلم والفن. كنت أمضي ساعات حوارية رائعة معه، حتى ولو كانت عبر الهاتف أحيانا، نتكلم ونتفلسف في طبيعة الانسان والعالم والقيم، تاريخ المجتمعات، حاضرها ومستقبلها، بأسلوبه الفلسفي الشيق..
كان اليكسي متفائلًا جدا في نظرته الى العالم وكان يؤمن برقي الإنسان الروحي والفكري بالفطرة. نظرة مثالية، وكأنه فارس نبيل خرج من العصور الوسطى، وهو كان يعشق هذه الفترة التاريخية بالذات، تتناغم وفكره الإنساني السامي كونه معلما أولا وفيلسوفا ثانيا. آمن بأن المجتمعات ذاهبة الى وعي فكري إجتماعي وإنساني بطريقة عفوية سلمية لأن التاريخ لا يعود الي الوراء، والإنسان سينال حقوقه الكاملة من عدل ومساواة كونه يتطور داخليا وخارجيا يوما بعد يوم، ويتأقلم أكثر مع المبادئ الإنسانية العالمية التي تنادي بالإنفتاح والأخوة وكل ما تحمله من قيم عزيزة على قلب كل إنسان شريف. أما أنا فكنت أعارضه الرأي لأنني كنت أرى الأمور من معيار اخر تماما، واليوم أجد انني كنت على حق وصديقي كان يحلق في عالم أو بالأحرى كوكب آخر. كنت لا أوافقه الرأي وأقول بأن الإنسان لا يتعلم من التاريخ لوحده وبصورة تلقائية وطبيعية أبدا. وحدها القوانين الجدية الفعالة والحروب والمآسي، والدمار المادي، البشري والنفسي يعلموه أو بالأحرى يجبروه على التعلم واستقصاء العبر في سبيل الإستمرار في الحياة بعدها. التاريخ هو أكبر دليل على صحة كلامي… القوي يقتل الضعيف، تقوم الثورات، المؤامرات الخفية والعلنية والحروب المدمّرة بعدها الغالب هو الذي يضع قوانينه ويصنع التاريخ. لو تعلّم فعلا الانسان من هذا التاريخ، وأنا أشمل كل مجال يحتويه التاريخ، سواء السياسي، الديني أو المدني، سواء التاريخ القديم او الحديث وما حمله من مآسي ومظالم بحق شعوب بريئة وضعها القدر على خارطة مسوخ هذا العالم، لما سمح بأن نصل الى مأساة السلاح النووي ومأساة العصر المرعبة التي نواجهها اليوم. عنوانها Covid-19!
فجأة تلقينا الصفعة وواجهنا الحقيقة وجها لوجه… أننا أقل من حشرة لا بل من فيروس غير مرئي. حقيقة أن القيم والمبادئ التي تربينا عليها سواء مدنيا أو دينيا، لن تنفعنا ولن تنقذنا، خاصة وأن كل مكتسباتنا الفكرية والروحية والاجتماعية باتت غير ثابتة ابدا ويمكن أن نخسرها في لحظة واحدة لنعود عبيدا لأسياد هذا العالم، يتفننوا في تطوير اسلحة رهيبة تبشرنا الدخول في عصر الكتروني يصبح جزءا لا يتجزأ من أجسادنا، مثله مثل الوشم بعد أن يصدر قانون بالزامية وشمنا ووشم كل مولود! حرب باردة بدأت في عالم لا مكان فيه للإنسانية، والمكر والخداع هو من أهم ركائز الحروب. لا عدالة في مراكز العدل الدولية، لا حقوق في مراكز الحقوق الدولية… عالم المجرم فيه بات هو الضحية!… ما العمل والى أين المفر قبل الإنفجار النووي الكبير ومن يتبقى يعيش في صحون طائرة فضائية، تستمر حرب النجوم بينها؟
هناك شعوب لا تؤمن بمشيئة الله والقدر كي تصفق لمشيئته وتهلل جنوده، تحب الحياة وتريدها. وهناك شعوب تحب الله ولا ترى الشر من خلاله بل النور الكلّي السامي عن كل دنس، وهناك الشعوب التي لا تؤمن بأي اله أبدا بل بحقها في هذا الوجود تشارك الخصال الكونية النبيلة مع البشرية جمعاء. هذه الشعوب موجودة وهي التي ستكتب التاريخ لتواجه صانعيه. أمام المأساة تجدهم تلك الشعلة التي تقود الإنسانية نحو «وعي جماعي» يساهم في محاصرة الشر وإضعافه. نراهم بيننا في كل مكان وفي جميع القطاعات، ينشرون الحقيقة من وراء الحدث. يساهمون في الدراسات والأبحاث، في تثقيف الفكر وقول الحقيقة ولو على حساب أمنهم وراحتهم. يساهمون في تضميد الجراح ومؤاساة الأرواح المعذبة. يلعبون الدور الأساسي في إحياء التضامن الأنساني العالمي بعيدا عن العصبيات على أنواعها التي تفرّق ولا تجمع. يمدون يد الرحمة لك، ينقذون روحك ويسيرون بك على طريق الوعي الحقيقي. هذا الوعي الذي يحتاجه العالم اليوم أكثر من أي وقت مضى في ظل مأساة هذا الفيروس وما سيتبعه من تبعيات ونتائج. وردات فعل مأساوية. فلنمد لهم اليد ونناصرهم ونحميهم كي يبقي النور بيننا!
تعاضد الخير تحت لواء المصلحة العالمية هو الشعلة الوحيدة التي يمكن أن تولّد الفرق في مسار التاريخ الإنساني. فلننضم اليها ونكون من الرابحين لا الخاسرين، كي لا ينتهي من سيتبقى منا، معلقا في صحون طائرة في مكان ما من هذا الكون. الخير الأكبر هو الوحيد الذي يدحر الشر الأكبر… سلامي لكم!