بقلم: محمد منسي قنديل
كنت جالسا في المكتبة العامة في مونتريال، وهي واحدة من اجمل الأماكن في العالم، وانا دوما ضعيف أمام المكتبات العامة، البيت الحقيقي الذي تسكن إليه نفسي، احب كل أنواعها، حتى مكتبة دار الكتب القديمة في باب الخلق، رغم المسامير الموجودة في مقاعدها، وبطاقات الفهرس المتهرئة الأطراف، والتراب الذي يفوح من صفحات كتبها، فما بالك بمكتبة مونتريال المجهزة على الطراز الاحدث، ويتم فيها البحث عن أحدث الكتب واستعارتها وإعادتها بشكل آلي، وهي تلعب دورا غاية في الأهمية في حياة اهل المدينة، عرفت ذلك حين ذهبت إليها ذات مرة قبل موعد الافتتاح في التاسعة صباحا، وفوجئت بطوابير طويلة من البشر، كبارا واطفالا، ينتظرون على مضض حتى تفتح ابوابها، وهي مثل المدينة تضم خليط من البشر من كل الجنسيات، غالبية الكتب فيها باللغة الفرنسية ولكنها فيها قدر لا بأس به من الكتب بالإنجليزية، وهناك قسم خاص وصغير باللغة العربية من ضمنها كتب لي.
في ذلك اليوم كنت جالسا في قسم الدوريات، اتصفح الجرائد والمجلات العالمية، وكان هناك الكثيرين من امثالي الذين يهوون أخذ عن لمحة عن العالم، وهي عادة ما تكون مريرة ومليئة بالمتناقضات، ولكن لفت نظري الرجل الذي كان يجلس في مقابلي في الناحية الأخرى من المنضدة، لم يكن يقرأ شيئا، وليس أمامه كتاب او مجلة، ولكنه كان يتلفت حوله، يتأمل وجوهنا جميعا، كأنه يتساءل ما لذي جاء بنا إلى هذا المكان، كان على وجهه ابتسامة ميته وهو يواصل التحديق فينا بعينية المنتفختين، كانت ملامحه الأسيوية معروفة ومحددة، انه من “الابو اورجين” التسمية التي تطلق على سكان البلد الأصليين، بعض الجالسين كانوا يستغربون من وجوده في هذا المكان، ففي العادة لا نراهم إلا على الأرصفة وهم يتسولون، او وهم مقبوضا عليهم في ايدي الشرطة ووجوههم دامية، هو نفسه كان يبدو مستغربا، ولكن الجو في الخارج كان شديد البرودة، ولابد أن الدفء هو الذي جذبه للمكتبة، لا اعرف ماذا كان يدور في ذهنه، ولكن لابد أن كان متعبا، فقد تراخت جفونه ومالت رأسه وسرعان ما استغرق في النوم، وكان المكان مزدحما فلم يلاحظه أحد من أمناء المكتبة، اخذت اتأمله وأنفاسه تتردد في هدوء، لا يجرؤ على اصدار أي صوت، ولكني اعرف بالضبط فيما كان يفكر، او بالأحرى يحلم، كان يتساءل كيف تجمع كل هذا العدد من الغرباء، من مختلف الأعراق والأجناس، على الأرض التي كان يمتكها ذات يوم، كيف ينعمون بهذا الدفء وتلك السكينة بينما يظل هو مطاردا لا مأوى له إلا محطات المترو والارصفة الباردة؟
لم يتوقف تفكيري الاخرق عند هذا الحد، فقد تخيلت انني في فلسطين، في الأرض التي تعيش تحت ظل اقسى احتلال في التاريخ، في مكتبة مثل هذه في قلب إسرائيل، وان هناك إسرائيليا متدينا، يؤمن بما جاء في سفر إيليا” ملعون من يمنع سيفه عن دماء الغرباء”، قد اكتشف أن شابا فلسطينيا يجلس امامه، شاب لا يجب أن يكون هنا، لأن ملامحه العربية واضحة ، فكل الفلسطينيين في نظره مشابهين، عاشوا على الأرض نفسها منذ آلاف السنين، وتزوجوا وتناسلوا في هذا الحيز الذي لم يعرفوا سواه، بينما جاء اليهود الذين يكونون إلى إسرائيل من كل اصقاع الأرض، ومن المستحيل أن يتشابهوا، مثل الحال مع سكان مونتريال، بالتأكيد لن يشعر هذا المواطن الإسرائيلي بالأمان، وقد يبادر بقتله تحت أي حجة، كأن يقول مثلا انه حاول طعنه رغم أنه لا يملك سكينا، المواطن الكندي لا يستطيع فعل ذلك، اقصى ما في وسعه هو أن يستدعي الشرطة، فقد قام الكنديون الأوائل بكل عمليات القتل اللازمة في وقت الاستكشاف، وهم يفضلون أن يطلقوا عليها عملية الادماج، وقد تحولت قبائل بأكملها في عملية الادماج هذه إلى عدة محميات صغيرة لا قوة لها وتعيش على الإعانات الحكومية، ولكن قتل العرب أمر سهل واعتيادي في إسرائيل، لا اعتقد أن هناك إسرائيليا بالغا لم يقتل عربيا، واحدا على الأقل، ويحبذا لوكان طفلا، أنه واجب قومي من اجل افناء أصحاب الأرض الحقيقين، ولكن إسرائيل هي أول من يدرك أنها تأخرت طويلا، فالاستعمار الاستيطاني لا ينجح إلا اذا تم استئصال أصحاب الأرض بقسوة وبدم بارد، كل الدول التي سطت على ارض الغير واقامت دولا راسخة فعلت ذلك، أمريكا المثال الواضح في هذا الأمر، فعلت ذلك حين قضت نهائيا على الهنود الحمر، ولم تترك منهم إلا مجموعات ضعيفة متفرقة بدواعي الذكرى والدراسة التاريخية، وكذلك الامر في كندا التي اخذت نصيبها من الأرض وتركت بقية السكان الأصليين لمصيرهم تحت الثلوج، وحدث الشيء نفسه في استراليا ونيوزلندا، سادت حضارة الرجل الأبيض ولم يعد هناك من ينازعها، ولكن الاستعمار الاستيطاني فشل في بقاع أخرى من الأرض، فشل في الجزائر رغم أن فرنسا ظلت على مدى اكثر من مائة وثلاثين عاما تدعي أنها ارض فرنسية عبر البحار، واصرت على أن تعلمها اللغة الفرنسية وتغير أسماء أبنائها وطراز مدنهم، ولكن اهل الجزائر الحقيقين ظلوا موجودين، يتكاثرون في الجبال الوعرة دون أن تصل إليهم أصابع الفرنسين، وعندما بدأت حرب التحرير ادركت فرنسا أن هناك شعب آخر، كامل متكامل مصمم على طردها، وقي الستينات من القرن الماضي فشل مشروع الاستبطان الفرنسي برمته في الجزائر وفي مناطق أخرى من العالم، ولكن المشروع الاستيطاني الآخر في جنوب افريقيا لم يفشل إلا في نهاية التسعينات، ففي هذه البقعة الساحرة من رأس الرجاء الصالح اعتقد الهولنديون أن هذا هو موطنهم الثاني، وحولوها إلى سجن خانق للملايين من أصحاب البشرة السوداء، لم يقدروا على ابادتهم ولكنهم احاطوهم بجدران من الكراهية والتفرقة العنصرية، تماما كالجدار العازل الذي اقامته إسرائيل ، هبطوا بمستواهم الإنساني إلى الدرجة السفلى واعتقدوا أنهم قد تخلصوا منهم، ولكن الحقيقة ان القوة السوداء كانت موجودة بكثافتها العددية وقوتها الضاغطة، وعندما خرج مانديلا من السجن كان العالم كله في انتظار سقوط التجربة الثانية من المشروع الاستيطاني، لم يبق إلا المشروع الاستيطاني الأخير في إسرائيل، ستقاوم طويلا، وستفعل أمريكا المستحيل لإنقاذها، ولكن اذا تمسك الفلسطيني بارضه، وحمل صليبه على كتفه، فإن حكم التاريخ سيبقى ساريا فوق رؤوس الجميع، ربما لا يجرؤ أي فلسطيني الآن على دخول المكتبة العامة في تل ابيب، ولكنه يوما ما سوف يدخل، ويجلس على المنضدة ولحظتها سيعرف المستعمر الإسرائيلي ان مشروعه الاستبطاني قد فشل.