قصة بقلم : نعمة الله رياض
المجتمع البشري مكون من أشخاص مختلفون من حيث الشخصية التي تتكون من: الطبع، الصفات، الأحاسيس، الأفكار والسلوكيات المتأصلة والفريدة لدى شخص معين؛ فمن الممكن إيجاد تنوع واسع بين الأشخاص، من حيث الصفات والتراكيب الشخصية، في تجمع سكاني واحد..
والشريحة الرئيسية لأي مجتمع بشري مكونة من أشخاص أسوياء طبيعيون، بدون عقد نفسية ظاهره ومؤثرة في تعاملهم مع الأخرين .. لكن توجد علي طرف هذه الشريحة الرئيسية شريحتان أحدهما لأشخاص يعانون من أمراض نفسية مؤثرة فى تعاملهم مع الاخرين ، والشريحة الأخيرة لإشخاص مصابون بالجنون المطبق ومن الصعب ، بل من المستحيل أحيانا” ، التعامل معهم ..
اليكم هذه القصة الحقيقية والتي حدثت بالفعل:
تعرفت علي المهندس / نادر فهيم بإدارة التصميم في الشركة الصناعية التي نعمل بها ، وبالرغم انني كنت أعمل في إدارة أخري بالشركة ، إلا اني كنت اشترك معه في دراسة واختيار عروض الماكينات المختلفة التي تحتاج الشركه لشرائها .. كان المهندس/ نادر شخصا ذكيا وهادئا ومن أكفأ المهندسين في إدارته، وكان مدير الادارة يكلفة بحل المشكلات التصميمية الصعبة والتعديلات المطلوبه فينجزها بمهارة فائقه.. وعندما علم انني اهوي لعبة الشطرنج ، دعاني للانضمام إلي فريق الشطرنج بالشركة الذي يرأسه، وكنت اتمرن واتقدم في اللعبة بارشاداته وحلوله العبقرية .. وعلمت انه حاز علي كأس البطولة علي مستوي الشركات الصناعية وإن الشركه كانت تحضر لسفره للإشتراك في مسابقة شطرنج دولية ..
كلاعب شطرنج كان نادر مغرما” بتفاصيل أي مشكلة فنيه تعرض عليه ، يبحثها من جميع الجوانب ، ويدرس كافة الإحتمالات ..وكانت طريقة تفكيره وكلامه ومشاعره عادية جدا” ، بل مثيرة للإعجاب ..
لكني لاحظت بعد فترة أن تركيزه في فحص العروض المقدمة قد تناقص عن المعتاد وأكثر من شرب السجائر والقهوة ، وأصبح عصبيا في تعامله، وكان يتصرف أحيانا بغرابة .. فمثلا إذا ضجت القاعة بالضحك لسماع نكته، كان هو يجهش بالبكاء !!.. ثم بدأ يأخذ أجازات متقاربه عن العمل ، مما جعلني أستفسر من زملائه عن سبب أجازاته المتكررة ، ذكروا أنه يعاني من بعض المشاكل النفسية ..
قررت أن ازوره في منزله للسؤال عنه .. قابلني هناك شقيقه الأصغر وابنه وابنته وعمرهما عشرة وثماني سنوات بالتقريب.. قال شقيقه :
- نادر وزوجته توجها لعيادة طبيب نفسي لحضور جلسة هي الرابعة
– مما يعاني المهندس/ نادر؟ - لقد أصبح منطويا علي نفسه بشدة .. وفي الآونة الأخيرة كان يعاني من اضطراب حاد شوه طريقته في التفكير والتصرف ، والنظر إلي الواقع ، فلا يستطيع التفرقة بينه وبين الخيال.. كما لوحظ عليه في الفترة السابقه الخوف من شيئ مجهول ينظر اليه مبحلقا في الفراغ..
– وماذا قال الأطباء ؟ - لقد شخصوا مرضه بانه مصاب بالفصام (الشيزوفرانيا) .. تتغير فيه شخصية المريض وتصرفاته وتجعله يفقد أي صله بالواقع..وفي مرحلة متقدمة من المرض، يكون غارقا” في أوهام انه ملاحق من شخص أو عدة أشخاص.. وقد وصفوا له قائمة من الأدوية يجب علي زوجته أن تساعده علي تناولها في مواعيدها .
تحسنت صحة نادر قليلا ، مما جعله يعود للعمل .. لكن حدث مرة أن إستدعاه مدير الإدارة ليناقشة في طريقة حله لمشكلة فنية ، فجأة ثار نادر في وجه المدير وصاح فيه قائلا : – إنت بتفهم أحسن مني !! .. لولا تقدير المدير لحالته النفسية ، لكان قد حوله لمجلس تحقيق .
في زيارة لشقيق نادر لتقديم طلب بأجازة مرضيه، جاء إلي مكتبي ليحكي لي تطور جديد في حالة أخيه قال: - لقد أوصاني طبيبه النفسي بتسجيل ما يتفوه به أثناء نوباته الفجائيه ، وهذا ما استنتجته من التسجيل الذي يسمع فيه صوت أخي فقط:
في نوبه من النوبات ، ظهر له الأستاذ/حليم والمدام/ عنايات ،وكانا يدرسانه في المرحلة الإبتدائية ، أصبح يعاني من مطاردتهما له ..أينما ذهب يراهما بوضوح ، يتكلمان معه ينصحانه ويحذرانه من أخطار ستلحق به إن لم ينفذ نصائحهما وتعليماتهما ، والعجيب انه يراهما كما تعود أن يراهما وهو صغير لم يتقدما في العمر ولا تظهر شعرة بيضاء واحدة في رأسيهما .. من المفترض أنهما الأن أصبحا عجوزين أو حتي فارقا الحياة، كان يراهما واقفين أمامه لا يتحرك شيئ فيهما إلا العين والفم .
قال له الأستاذ / حليم: - هل تتذكر إنني أول شخص يعلمك الشطرنج ؟
- نعم يا إستاذ/حليم لقد أصبحت الآن بطل الشركات في الشطرنج!
– إذا”” داوم علي التدريب ، أريدك أن تصبح بطل العالم في الشطرنج بالرغم من أي عائق ، حطم ما يعيق تقدمك !!
وقالت له المدام / عنايات - هل انهيت إمتحان الفرنسية؟
- نعم يا مدام ، في نهاية المرحله الثانويه ، ولكني لم أكمل دراسة الفرنسية فلم تكن تدرس في كلية الهندسة ..
- يا للخسارة !! هيا أدرس الفرنسيه في أي مكان ولا تستمع لإعتراض أحد ولا حتي زوجتك ، فإذا إعترضت ، إضربها ، فهي تستحق العقاب !!
خلال زيارة لاحقة لنادر في منزله، حكي لي هامسا” : لاحظت أن الكم الكبير من الأدوية التي أتعاطها تؤثر علي قدرتي الجنسية، وبعد محاولة فاشلة مع زوجتي رأيتها تهرول خارجة من غرفة النوم إلي المطبخ تبكي بحرقه وتحطم الأكواب والأطباق ، فلكي أرضيها ، وهذا حقها، لجأت إلي التهرب من أخذ الدواء !!
إنتكست بالتالي حالة نادر ، فإضطر الأطباء أن يخضعوه لجلسات الصدمات الكهربائية، بتمرير تيار كهربائي محسوب علي رأسة لإطلاق فيضان المشاعر.. كانت الجلسات مؤلمه للغايه، وكان جسمه كله ينتفض بشدة..
لم ينقطع بكاء طفلته علي حال والدها وسؤالها لأمها: - متي يشفي أبي ؟
وجزع إبنه وخوفه من أبيه ، لأنه في إحدي نوباته العصبية أوسعه ضربا وهو يصرخ فيه لماذا تشاهد التلفزيون ولا تذاكر ، مكررا” الجمله عدة مرات وهو شبه منوم!! .. بين الإبن والإبنة كانت الأم هي الأكثر ألما ومعاناة..
ذات يوم عندما كنت في مكتبي بالشركه ، اتصل بي أحد زملائه بادارة التصميم ليبلغني أن المهندس/ نادر فهيم قد فارق الحياة منتحرا بأن شنق نفسه في منزله…
ذهبت الي منزله لمواساة أهلة وجلست مع شقيقه الأصغر ، شكرني علي التعزية .. كان وجهه شاحبا” وآثار الصدمة جليه في عينيه الزائغتين.. قال لي وهو علي وشك البكاء: لقد ترك أخي هذه الرسالة في حجرته، يمكنك قرائتها ..
تناولت الورقة منه ، كان بها بضعة سطور قليلة مكتوبة بحروف مهتزة:
إلي زوجتي وأولادي الأحباء ..إلي أقربائي الأعزاء.. إلي أصدقائي وزملائي الأوفياء، أترك لكم هذه السطور لأشكركم علي وقوفكم معي في محنتي المرضية ، أكتبها وانا في قاع بئر مظلم لا قرار له، بلا أمل في بصيص من النور.. لقد آثرت ألإنسحاب من الحياة قبل أن يتفاقم مرضي وأسبب الأذي لأحد من أحبائي خلال إحدي نوباتي المتكررة ..أطلب من الله عز وجل، خالق الكون وواهب الحياة،
أن يسامحني ….