بقلم: د. خالد التوزاني
للمملكة المغربية علاقات دبلوماسية وروحية رفيعة المستوى مع أغلب دول العالم، منذ فجر التاريخ، وإلى اليوم، استطاعت تأسيس علاقات حُسنِ الجوار وترسيخ التواصل والحوار، بما تمتلك من قيم التعاون والتضامن والمسارعة في الخيرات والمبادرات الرائدة لملوك وسلاطين الدولة المغربية العريقة، والتي استمرت مبادراتها الإنسانية إلى اليوم، في عز أزمة كورنا، يبعث أمير المؤمنين جلالة الملك محمد السادس نصره الله وأيده، أطناناً من المساعدات الطبية والصحية إلى عدد كبير من الدول الإفريقية، ودول أخرى تربطه بها علاقات إنسانية، لم تكن وليدة عوامل جديدة، فرضتها ظروف العصر القائمة على ضرورة العمل وفق تكتلات اجتماعية واقتصادية كبرى، أو استغلال الأزمات والنزاعات لفرض الآراء أو التوجهات، وإنما تعود هذه العلاقات إلى أقدم العصور، وتتحكم فيها قيم الإخاء والتضامن والإحساس الإنساني بالمصير المشترك وحرمة الإنسان، مما جعل العديد من دول العالم تبادل المملكة المغربية معاني التواصل الإنساني في مختلف تجلياته وأبعاده، فترتقي العلاقات المغربية بدول العالم إلى مستوى التواصل الروحي والدبلوماسي القائم على سلطة المحبة والوفاء والصفاء والخير، بل ومقابلة الشرّ بالخير، ومواصلة الإحسان إلى الغير مهما كانت الظروف، ولا شك أن هذا التواصل الروحي قد حفظ عدة دول من مخاطر الحروب والنزاعات وجنّبها الدخول في صراعات هي في غنى عنها، إذ يكفي صراعها مع تحقيق التنمية وربح رهان التربية والتطوير، وقد كان المغرب حكيماً عندما نظر إلى عواقب الأمور وحافظ على حبل الود مع الجميع بالكلمة الطيبة وتوحيد الصّف ودرء الخلاف وبحث نقط الاشتراك ومداخل التعاون والبناء، وتعزيز التواصل والارتقاء بالعلاقات من طابع المصلحة إلى وضع رابح رابح، ومن سلطة القانون أو القوة إلى سلطة اللين والرحمة، إذ يُدرَكُ باللين والرأفة ما لا يُدرك بالعنف، كما وضع المغرب خبراته رهن إشارة أصدقائه من دول العالم فكان بذلك المغرب نموذجاً رائداً في مجال التواصل الروحي والدبلوماسي في أسمى معانيه وأبعاده. لقد اختار المغرب أن يكون إلى جانب الإنسانية حيثما كانت مصلحة بقائها وسلامتها وأمنها، وعبّر عن ثقته في أصدقائه، فبادلوه الثقة، والمحبة، والنماذج كثيرة ومتنوعة؛ منها إلقاء جلالة الملك محمد السادس نصره الله، خطاب المسيرة الخضراء التاريخي يوم 6 نونبر 2016 من العاصمة السنغالية داكار، بكل ما يحمله هذا الحدث من دلالات تؤكد عمق الانتماء المغربي لإفريقيا وقوة العلاقات التي تربطه بدولها ودول العالم. إن أحد أهم أشكال التواصل التي تربط المغرب بدول العالم، التواصل الروحي والديني من خلال انتشار الطرق الصوفية المغربية في عدد من الدول، ليشكل هذا النمط من التواصل رافداً للمحبة والأخوة الإنسانية، حيث تتجاوز العلاقات أشكال التعاون الاقتصادي وتبادل الخبرات إلى حماية الأرواح والنفوس وزرع بذور الأمن والسلام والتسامح، عبر دبلوماسية روحية يرأسها أمير المؤمنين جلالة الملك محمد السادس نصره الله وأيده، من تجلياتها بناء جلالته لمجموعة من المساجد وتوزيع آلاف النسخ من المصحف المحمدي، وتكريم العلماء وشيوخ الطرق الصوفية عبر العالم، وخاصة خلال الدروس الرمضانية التي تقام في حضرته بالقصر الملكي العامر وهي الدروس “الحسنية” الذي دأب على تنظيمها مبدع المسيرة السّلمية الخضراء جلالة الملك الحسن الثاني قدّس الله سرّه، كل ذلك له دلالة خاصة تعكس سمو الشخصية المغربية وأصالتها، كما تدل على عمق الروابط الروحية التي تجمع ملوك المغرب بزعماء وملوك العديد من الأقطار، منذ تأسيس الدولة المغربية قبل اثني عشر قرناً، كما تدل على هذه العلاقات مجموعة من كتب الرحلات والرسائل التاريخية والوثائق والأرشيف الدبلوماسي الموجود في المغرب وخارجه.
وإيماناً بأهمية العلاقات الدبلوماسية والروحية بين المغرب ودول العالم، وإسهامه الفعال في تحقيق التقارب بين الشعوب والحكومات، وتعزيز الحوار والشراكات، وتثمين الثقافات والتراث الإنساني المشترك، أطلق المركز المغربي للاستثمار الثقافي، المعروف اختصاراً بـ “مساق” مشروعاً أكاديمياً يروم تتبع تجليات هذا التواصل بين المغرب ودول العالم، ودراسته علمياً، في أفق اقتراح مداخل الارتقاء بهذه العلاقات وتثمين الدبلوماسية الثقافية الموازية وتوفير معطيات علمية وإحصائية تقدم صورة دقيقة ومتكاملة عن تاريخ هذه العلاقات وراهنها ومستقبلها، انطلاقاً من رؤى مختلفة وزوايا نظر متعددة، ومرجعيات متباينة، يدعمها السند العلمي والمقاربة المنهجية المتوازنة في التحليل، من أجل بلوغ نتائج أكثر صدقاً من الناحية العلمية وأكثر قدرة على الرصد والتتبع والإحاطة بمجمل الخصائص العامة التي تطبع هذه العلاقات، داخل مجال متغيّر ومتأثر بالظروف العالمية وبسياق التطور الحضاري الذي يمر منه المغرب، وتأثير بعض الأحداث العالمية، وما يجري في المنطقة العربية، ويؤثر على جودة العلاقات بين الدول، على أن التواصل الروحي والدبلوماسية الروحية أساساً ظلت تؤدي دورها في قوة ناعمة توجّه الكثير من الأحداث دون إحداث ضجيج إعلامي أو توظيف سياسي، ودون مكاسب اقتصادية، بل الرابح من هذه العلاقات هو الإنسان أولاً وأخيراً، بغض النظر عن موقعه ومكانته وجنسيته، ودون أخذ بعين الاعتبار استحقاقه المعاملة الطيبة أو المفضّلة، وإنما المطلوب دوام الإحسان والإنعام والإكرام، فالبشر خلق الله، ومَن يكرم خلق الله، يكرمه الله، ثم إن الإنسان مطالب أخلاقيا ودينياً بالإحسان إلى أخيه، وببذل الجهد في بناء كون فاضل يحقق العدل والكرامة للجميع.
يهدف هذا الكتاب الجماعي، الدولي الذي أطلقه المركز المغربي للاستثمار الثقافي، مساق، إلى تحقيق جملة من الغايات، من أبرزها: تعميق البحث في روافد التواصل الروحي والديبلوماسي بين المغرب ودول العالم، ورصد تجلياته وآفاقه، بما يُسهِم في تقوية هذه العلاقات وتنميتها، خاصة وأن الجانب الروحي يحظى بأهمية كبيرة اليوم، في ظل هيمنة التكنولوجيا وسيطرة الآلة التي سلبت الإنسان جزءاً كبيراً من إنسانيته، وأيضاً صراع الإنسان مع الأوبئة ومخاطر الحروب البيولوجية و بوادر الأزمات الاقتصادية التي تحتاج لمواجهتها إلى تقوية الجوانب الروحية العميقة في الإنسان قصد تحصينه وتمنيعه ضد كل المخاطر والمخاوف وأشكال الهيمنة.
ويقترح المركز جملة من المحاور للكتابة فيها، منها :
• التواصل الروحي والدبلوماسي بين المغرب الاسلامي والغرب المسيحي
• التواصل الروحي والدبلوماسي بين المغرب والبلدان الآسيوية
• التواصل الروحي والدبلوماسي بين المغرب والبلدان الإفريقية
• الديبلوماسية الروحية في مواجهة التطرف: من التحصين إلى التمنيع.
• دور العقيدة الأشعرية والمذهب السني المالكي في تكريس قيم الوسطية والاعتدال
• التواصل الروحي و تفعيل الحوار بين الأديان وترسيخ قيم التعايش.
• الموقع الجغرافي للمغرب ودوره في إنجاح العلاقات الديبلوماسية عبر التاريخ.
• التجربة المغربية و تدبير الحقل الديني: نموذج يطلبه العالم.
• تجديد التفكير الديني: معادلة الفلسفة والتجربة الروحية أو العقل والقلب.
• الديبلوماسية الروحية وسؤال الأخلاق والقيم والإصلاح
• الديبلوماسية الروحية والديبلوماسية التقليدية: تكامل أم تفاضل ؟
• الديبلوماسية الروحية ورهانات السلام العالمي: الواقع والآفاق.
• الدبلوماسية الروحية وتدبير الأزمات المعاصرة.
وتبقى هذه المحاور مجرد مقترحات للبحث على أن المشاركين في الكتاب لديهم الحرية في مقاربة جوانب أخرى من الموضوع، ورصد تجليات التواصل الروحي والدبلوماسي بين المغرب والعالم، انطلاقاً من بعض العلوم والمباحث المعرفية في القانون وعلم الاجتماع وعلم النفس والفلسفة والتربية والأدب والسياسة والإعلام والاقتصاد والإدارة والدفاع..، وغير ذلك من مجالات التأثير في جودة العلاقات بين المغرب ودول العالم والجوار ، عبر الشراكات الممكنة بين الدول والشراكات القائمة، سواء بشكل صريح أو ضمني، دون إغفال الحضور الإعلامي والرقمي الذي أتاح فرصاً جديدة للتواصل، وقرّب المسافات، وفي الآن نفسه أصبح يشكل عائقاً في بعض الحالات أمام ظواهر الاختراق والتجسس وسرقة البيانات.. وتدمير الأنظمة الاقتصادية والأمنية، مما يفرض مقاربة متكاملة ورؤية مستقبلية تقوم على الاستباق والتوقّع والوقاية والحذر المتوازن.
ويشرف على هذا المشروع العلمي نخبة من الباحثين والدكاترة، الذين يجمعهم الاهتمام المشترك بموضوع التواصل الروحي والدبلوماسي بين المغرب ودول العالم، في محاولة للإحاطة بمجمل العلاقات مع القارات، حتى يكون المشروع شاملاً، وغير خاضع للانتقاء أو التوجيه، بل البحث الميداني هو الذي يوجه الباحث ويقترح الفرضيات، قبل أن يتحقق منها عبر أدوات البحث الممكنة كالاستمارة والمقابلة والوصف والتأريخ والمقارنة والإحصاء والتحليل والتأويل أيضاً، ثم استخلاص النتائج وتصنيفها قبل تعميمها وجعلها قابلة للاستثمار في تحسين هذه العلاقات والارتقاء بجودتها، مع توفير قاعدة بيانات وشبكة اتصالات بين الباحثين المتخصصين في الدبلوماسية الروحية عبر العالم، وانطلاقاً من بؤرة روحية بامتياز هي المملكة المغربية أرض الصلاح والأولياء والعلماء، وأرض التواصل الفعال، وموقعه الجغرافي يمثل أكبر دليل على ضرورة هذا التواصل وأهميته، وبالفعل استطاع المغرب أن يكون في قلب الأحداث العالمية الكبرى وأن يدلي بدلوه في مجمل التغيرات والتحولات التي يشهدها العالم، الشيء الذي يعني أن المغرب ليس مجرد بلد، بل يمثل صلب التواصل وعمق التفاعل المثمر والبنّاء.
ولتحقيق أهداف البحث العلمي ضمن مشروع رصد تجليات التواصل الروحي والدبلوماسي بين المغرب والعالم، وضع المركز المغربي للاستثمار الثقافي رهن إشارة الباحثين عدداً من بيانات التواصل من أجل إرسال بحوثهم مرفوقة بالسيرة العلمية، أو إرسال استفساراتهم، كما يوفر خدمة الاستشارة العلمية في اقتراح مجالات بحث جديدة تنسجم مع المشروع، وأيضاً توفير عدد من المراجع التي تفيد الباحثين في معرفة معطيات الحضارة المغربية بالخصوص أو سبل الوصول إلى الأرشيف الدبلوماسي المغربي.
وقد تم تحديد فاتح يناير 2021 آخر أجل لإرسال البحوث، علماً أن التواصل مع المركز قائم من أجل إنجاز مساعدة الباحثين على إنهاء بحوثهم بالشكل العلمي الذي يحقق التوازن والانسجام والتكامل بين كل البحوث، ومن المرتقب أن يصدر الكتاب في النصف الأول من العام المقبل 2021.
(المركز المغربي للاستثمار الثقافي – مساق- خالد التوزاني touzani79@hotmail.com )