بقلم: تيماء الجيوش
كنت قد بدأت بالإعداد لمقالتي هذا الاسبوع حين ورد خبر وفاتها في الإعلام. و حينها قررت أن أكتب عنها و كيف لا و هي النسوية و القاضية و الأم و من مهدت الطريق لنساءٍ عديدات بأن تُفتح لهن أبواب القضاء في زمنٍ غلب عليه أن تتموضع المرأة في رُكبِ الدرجة الثانية مهنياً وأجتماعياً و هي بتجربتها الإنسانية لم تعد نموذجاً يخصُّ مجتمعاً بعينه أو دولةً بعينها. هي لم تعد تعني الولايات المتحدة الامريكية فقط، بل باتت تعنينا جميعاً في سعينا الحثيث لبناء المجتمع النسوي و لإنهاء التمييز ضد المرأة و إقامة المساواة الحقّة. من أتحدث اليوم عنها هي روث بادر جينسبرغ Ruth Bader Ginsburg .
وُلِدت لأبوين مهاجرين في مدينة نيويورك و حي بروكلين تحديداً في العام ١٩٣٣. و ذاك العقد شهد أسوأ أزمةٍ اقتصادية على الإطلاق و التي كانت في العام ١٩٣٩. أتمت تعليمها لتصبح طالبةً في كلية القانون في خمسينات القرن الماضي و الذي كان تحدٍ بحد ذاته و وُجِه لها سؤال مباشر عنه: « كيف استطعت أنت أن تنالي مقعداً دراسياً من المفترض أنه للذكور فقط في هذه الجامعة العريقة و ليس للإناث»؟ بنهاية تحصيلها الأكاديمي تخرجت بدرجةٍ عليا و بثناءٍ و توصياتٍ من جامعاتٍ مرموقة، Cornell, Harvard and Columbia.
بالرغم من هذا السجل الاكاديمي الجيد كانت عُرضةً للتمييز الجندري عندما لم تستطع ان تجد عملاً في أيٍ من المكاتب القانونية في مدينة نيويورك . فهي إمرأة و أم لهذا كانت تُدفع بعيداً عن سوق العمل و لا تُقبل طلباتها للتوظيف.
عندما تقدمت للعمل ككاتبة في المحكمة العليا Supreme Courtلم تختلف النتيجة أيضاً فرُفِضَ طلبها كحال الطلبات السابقة لأنها إمرأة. في انعطافةٍ مهنية اتجهت للتعليم الجامعي و اهتمت بالمرأة و القانون في محاضراتها. كإمرأة عاشت و عانت كمثيلاتها من النساء من اللامساواة، تلقت أجوراً أقل من زملائها الذكور و اضطرت الى إخفاء حملها كي تستطيع الاحتفاظ بعملها . هي جملة من الظروف المعقدة التي واجهتها كإمرأة و فرضت عليها و اقعاً مختلفاً و شكلت شخصيتها و تجربتها لتبلورها فيما بعد و تجندها في الدفاع عن حقوق المرأة . إلى أن بدأت الحركة النسوية في الستينات حيث كان اللقاء المنطقي و الطبيعي بينهما ، لإمرأةٍ أكاديمية تُكرّسُ مهنتها للتغيير وتؤمن تماماً أن القانون قد عُمي عن التمييز الذي يحدث بحق المرأة و بشكلٍ ممنهج و بين حركةٍ هي أساساً تدافع عن حقوق المرأة وتدعو حثيثياً للمساواة و بناء مجتمعٍ نسوي .
مضت أعوام عدة لتأتي
أرسلت أول مذكرة موجزة لها إلى المحكمة العليا ، ناقشت فيها اليات تفضيل الرجال على النساء في التوظيف و بشكلٍ اتوماتيكي. هذه المذكرة تحديداً نالت صىدىً طيباً لدى هيئة المحكمة و قبولاً بها ما أدى إلى إلغاء قانون ولاية قائم على التمييز بين الجنسين لأول مرة.
من ضمن ما احتوته فقرات تلك المذكرة التالي:
«خلال هذه السنوات توّلدَ تقدير لمكانة المرأة في الولايات المتحدة الامريكية و بجهودٍ نسوية من قبل كلا الجنسين، بدأت المحاكم و المُشرعين بقبول مطالب النساء بعضوية كاملة في قطاع الاشخاص اللذين لهم كل الضمانات في الحياة و الحرية و الحماية القانونية المتساوية».
في مسيرتها القانونية و التشريعية أشارت الى انه بالمبدأ يمكن استخدام تصنيفات الجنس لتعويض النساء عن إعاقات اقتصادية معينة تعرضن لها ولكن لا يجوز استخدام مثل هذه التصنيفات و بأي شكلٍ كان ، لخلق أو إدامة الدونية القانونية والاجتماعية والاقتصادية للمرأة.
و ما تلا ذلك لم يكن غريباً عن مسارها المهني و القانوني حيث كانت المؤسسة لمشروع المرأة في اتحاد الحريات المدنية الامريكي. ولتشرح في كل مكانٍ و موضع ما هو الجندر و ما هو التمييز و متى و كيف يقع و ما هو السبيل للتغيير. ولعل ذروة عملها في الدفاع عن حقوق المرأة و الحركة النسوية كان في السبعينات عندما وردت الى يديها قضية تتعلق بإمرأة حُرِمت من العمل في سلاح الجو الامريكي و لسبب حملها ، ربما هذا التقاطع ما بين ظروف المرأتين و بإختلاف الحقب الزمنية كان من الاسباب التي جعلت من هذه القضية و دفاع السيدة جينسبرغ عنها من العلامات الفارقة في مسيرتها القانونية و كان من أثر دفاعها أن حكم المحكمة صدر لصالح المرأة و عودتها للعمل و أن ظروف حملها لا تمنع ذلك إطلاقاً. لاحقاً وصل المطاف بالسيدة جينسبرغ الى ما وصفته بأنه أعظم مرحلة في حياتها المهنية عندما ارتقت في العام ١٩٩٣ بعملها لتصبح ثانية قاضية في اعلى هيئة قضائية في الولايات المتحدة الامريكية ألا و هي المحكمة العليا Supreme Court.
و لا يخفى على المشرعين أن هكذا منصب يقتضي توفر مهاراتٍ قانونية و سياسية . كانت صوتاً قوياً داعماً لمساواة الجندر في المحكمة العليا و حقوق العمال.
آمنت جينسبرغ و بشدة ان المساواة هي من حق الرجل كما هي من حق المرأة وأن العدالة بموجب القانون يجب تطبيقها على الجميع و بمكيالٍ واحد لا بمكيالين. كما و آمنت و بشدة أن التمييز ضد المرأة لا يؤذي المرأة فقط بل يؤذي الرجل أيضاً بل و أبعد من ذلك فهو يتعلق حقيقة بالمجتمع قاطبةً، بمن نكون و ماذا يمكننا أن نكون .
بهذا أصبحت مصدر إلهامٍ للكثيرين من نسويات الى قضاة الى طلاب و طالبات قانون و نسويات من الاجيال اللاحقة . باتت القاضية جينسبرغ نموذجاً قلّ نظيره. جمعت ضفاتٍ عدة فقد كانت محامية ، وقانونية ، وأستاذة جامعية ، و قاضية أعادت تعريف المساواة بين الجنسين والحقوق المدنية وضمنت التزام أمريكا بمُثلها التأسيسية و الديمقراطية الحقة التي تليق بالمجتمعات المتحضرة و المتجذرة الانسانية.
كانت تردد بأن العدالة المتساوية في ظل القانون تقتضي أن تستخدم الدولة جميع ما لديها من قدرات و أدوات كي تحقق للمرأة ما هو للرجل.
وصفها العديد بالليبرالية الشرسة على الرغم من تشبثها بروح القانون.
في معرض عملها القضائي و تناولها لقضايا مختلفة عملت على ألا يحرم القانون او السياسة المرأة من نيل المواطنة الكاملة و تكافؤ الفرص التي تعزز تطلع المرأة في تحقيق مشاركتها في مجتمعها والمساهمة فيه و استثمار مواهبها و قدراتها.
Laws which disable women from full participation in the political, business and economic arenas are often characterized as ‘protective’ and beneficial. Those same laws applied to racial or ethnic minorities would readily be recognized as invidious and impermissible
وداعاً سيدة جينسبرغ.