بقلم: د. حسين عبد البصير
ملامح وجه الفرعون الشمس
وفي البداية، ظهر الملك أمنحتب الثالث على آثار عصره في الصورة التقليدية كملك رياضي وبنَّاء عظيم قبل أن يركز على صورته الإلهية كي يؤكد على مكانته العالية في المجتمع المصري القديم. وقام مهندسه الشهير العبقري أمنحتب بن حابو بتخطيط وتنفيذ برنامج معماري ضخم يلبي رغبات وطموحات ملكه العارمة للخلود والتميز بين ملوك مصر أجمعين.
وعمومًا فقد تميزت ملامح وجه الملك الفنية، خصوصًا في تماثيله، بالخطوط الخارجية السميكة، والعيون اللوزية الشكل، والشفاه البارزة، والحواجب المقوسة، والأنف المحدد. ومع مرور الوقت، أصبحت الشفاه أكثر استدارة، وتغير الأنف قليلاً، مع ميل إلى التجريد، والواقعية في التعبير. وفي العقد الأخير من حكم الملك أمنحتب الثالث، مال الفن إلى الأسلوب الواقعي؛ فنرى الملك مصورًا في تماثيل سنواته الأخيرة بدينًا. وأيضًا ظهر واجمًا من أثر الإجهاد والإرهاق، وفي صورة بشرية للغاية. وصار التعبير الحر مصرحًا به كثيرًا. وهناك عدد من الدارسين من يعزو تلك التحولات الفنية الكبيرة في نهاية حكم الملك أمنحتب الثالث إلى تأثره بالأفكار الدينية لولده وولى عهده أمنحتب (أمنحتب الرابع/أخناتون بعد ذلك) الذي ربما شارك والده الملك أمنحتب الثالث المسن في الحكم في نهاية فترة حكمه لبعض من السنوات غير معروف عددها على وجه التحديد. وفي نهايات حكم الملك أمنحتب الثالث، حدث تعديل في تشكيل العيون، وفي شكل جفن العين العلوي، وتم تخطيط الحواجب بطريقة طبيعية، وأصبح الخط الفاصل بين الشفتين منحنيًا مزدوجًا، وتحولت الابتسامة السابقة إلى تقطبية حزينة، وأصبحت الأذنان شحميتين أكثر.
نبلاء عصره
وتمتع النبلاء المثقفون جدًا، الذين تم اختيارهم بدقة فائقة، في عصر الفرعون الشمس الملك أمنحتب الثالث بقدر كبير من الثراء والامتيازات من قبل سيدهم الفرعون الذي قدّر جليل خدماتهم له ولمصر الأرض المحبوبة. وامتازت مقابر النبلاء من عصره بالعظمة والتفرد وروعة المناظر وثراء الموضوعات وتفردها. وتعد مقبرة رعموزا وغيرها الكثير من بين أهم المقابر القادمة إلينا من هذا العصر الفني المتميز. وصارت ملامح وجه الملك أمنحتب الثالث نموذجًا زخرفيًا يُحتذى في الأعمال الفنية لأفراد العائلة المالكة والنبلاء. وسيطر الأسلوب الحسي على المناظر المصورة في مقابر نبلاء عصر الفرعون الشمس في طيبة الغربية؛ فنرى في مقبرة النبيل «خرو إف» مناظر لأميرات أجنبيات يقمن بصب الخمر احتفالاً بالعيد «سد» الثالث الخاص بجلوس الملك على عرش مصر المقدس. وتتسم هذه المناظر بالرشاقة والدقة ونعومة التنفيذ وفقًا للأسلوب التقليدي في التصوير المصري القديم. وصُور النبيل الشهير والمهندس العبقرى أمنحتب بن حابو في أحد تماثيله بأسلوب أكثر واقعية؛ إذ صورت عيناه بجفنين ثقيلين ونحت وجهه ممتلئلاً بالغضون والتجاعيد.
ليس وداعًا للفرعون الشمس
وفى النهاية، فإن عصر الفرعون الشمس الملك الأشهر أمنحتب الثالث وروائعه الفنية والمعمارية الفريدة والعديدة والمتنوعة الخاصة بالملك وأفراد عائلته وكبار رجال بلاطه وحاشيته كان بحق خير شاهد على الثراء والجمال والروعة ودقة الأداء وعظمة مصر في العالمين القديم والحديث على حد سواء. لقد كانت مصر القديمة محظوظة بوجود ملك مثل الفرعون الشمس الملك الأشهر أمنحتب الثالث بين ملوكها من البنائين العظام، وقد كان أيضًا الفرعون الشمس الملك الأشهر أمنحتب الثالث محظوظًا بحكم دولة عظيمة كمصر سيدة العالم القديم في ذلك العصر: عصر الإمبراطورية، والتي أعطت له شهرة لا يضاهيه فيها كثير من حكام مصر من الفراعين الخالدين على وجه الزمن المتغير دومًا.
أخناتون ونفرتيتي
عندما تزور المتحف المصري في العاصمة الألمانية برلين، فأنت، دون شك، في حضرة جميلة الجميلات والسيدة الأكثر شهرة الملكة نفرتيتي. وتم تخصيص قاعة واحدة لها فحسب فى ذلك المتحف العريق حتى يعرض القائمون على ذلك المتحف الألمانى التمثال النصفى الشهير للملكة الجميلة حيث يشد الأنظار من كل مكان، ويلفت الانتباه من بعيد، ويأتى إليه كل الزائرون من كل حدب وصوب من شتى بقاع الأرض المعمورة حتى يطوفوا حوله عشقًا للجمال، وحبا لتلك الملكة الفاتنة، واستعادة لتاريخ فترة زمنية مهمة وحقبة تاريخية ثرية من تاريخ مصر القديمة والشرق الأدنى القديم بل والإنسانية جمعاء قلما أن تكرر حين اجتمعت السياسة مع الفكر والتغيير والثراء، وحين طغت على السطح أفكار دينية وفنية وأدبية وإنسانية لم تكن سائدة من قبل. إنه عصر العمارنة، حين حكم مصر ملك جديد أحدث ثورات على كل الأصعدة التقليدية وقلب الأمور رأسا على عقب فى فترة زمنية قصيرة عادت بعدها الحياة فى مصر القديمة إلى مجراها الطبيعى وسابق عهدها بعد اختفاء ذلك الملك أو إقصائه وإنهاء زمنه وتاريخه إلى غير رجعة من قبل كارهيه ومعارضيه من أنصار الملكية المصرية المستقرة وكهنة المعبودات الأخرى الذين قضى عليهم أخناتون وأزاحهم عنوة من المشهد السياسى فى مصر القديمة. وعلى الرغم من كل ذلك، فإن الآثار التى تركها عصر العمارنة على معاصريه ولاحقيه لم تختف كلية من المشهد كما كان يظن هؤلاء الكارهون لتلك الحقبة الأكثر إشكاليا وإثارة فى تاريخ مصر القديمة قاطبة بل امتدت تلك الآثار إلى ما بعد عهد الفرعون الموحد الملك أخناتون لفترة ليست بالقصيرة.
الديانة الآتونية.. ديانة الضوء
وتعتبر فترة العمارنة من أهم الفترات التاريخية فى مصر القديمة التى حدثت بها تطورات بل طفرات فى كل مظاهر الحياة بل والعالم الآخر. وكان الدين من بين أهم العناصر المميزة التى قامت عليها دولة الملك أخناتون ودعوته الدينية الجديدة. ولعب الدين دوره الكبير بامتياز فى فترة العمارنة الفريدة فى التاريخ المصرى القديم كله. وانصب اهتمام الملك الشاب على معبوده الجديد «آتون» الذي جسده الملك فنيا على هيئة قرص شمس تخرج منه أيد بشرية تمسك بعلامة «عنخ» كى تهب الحياة للبشرية جمعاء من خلال الوسيط أو النبى الملك أخناتون وأفراد عائلته المقدسة. وكان الأمير أمنحتب (الملك امنحتب الرابع بعد ذلك) قد تعلق بديانة الشمس وتحديدا قرص الشمس «آتون» منذ أن كان صغيرا. وتأثر كثيرا بخاله الذي كان كبيرا للرائيين فى معبد الإله رع إلى الشمس فى مدينة الشمس: هليوبوليس (منطقتا عين شمس والمطرية الحاليتان فى شرق محافظة القاهرة). وكان والده الملك أمنحتب الثالث وجده الملك تحوتمس الرابع دعما من ديانة آتون من قبل، غير أن أخناتون أخذ الخطوة الأكبر ووصل بديانة آتون إلى قمتها ونهايتها فى الوقت عينه. وعندما صار الأمير أمنحتب ملكا غير اسمه فى العام السادس من حكمه من أمنحتب الرابع إلى «أخناتون» أى «المفيد لآتون» كى يكون على أتم الاتساق مع دعوته الدينية الجديدة ومعبوده الجديد قرص الشمس آتون الذي أراد من خلاله الملك أخناتون أن يحقق العالمية لدعوته؛ نظرا لوجود الشمس فى مصر وكل مكان من بلاد الشرق الأدنى القديم؛ وبذلك يستطيع أن يتعبد إلى ذلك المعبود الكونى البشر فى معظم أرجاء الإمبراطورية المصرية الفسيحة التى شيدها جده الأعلى الفرعون المحارب الملك تحوتمس الثالث فى آسيا وأفريقيا. ولقت الدعوة الدينية الجديدة استحسان من قبل زوجته الجميلة والذكية الملكة نفرتيتى التى صارت من أقوى المناصرين للملك أخناتون ودعوته الجديدة وصارت صنوًا له وعنصرًا مكملاً للدعوة الآتونية والديانة الشمس وينقص المشهد شىء مهم إن لم تكن الملكة الجميلة موجودة به، إن لم تكن منافسة للملك الموحد. وفى بداية حكمه، بنى الملك أخناتون معبدا للإله آتون فى الكرنك، المكان المقدس للمعبود آمون رع، مهددا بذلك دولة آمون رع الأزلية المستقرة وكهنته ومتحديا إياهم فى عقر دارهم مما جعلهم يضمرون له الحقد ويكيدون له المكائد حتى ترك مدينتهم طيبة العاصمة العريقة لمصر القديمة فى عصر الدولة الحديثة وارتحل إلى مدينة جديدة لم تدنسها قدم إنسان من قبل. وقامت دعوة أخناتون على جمع كل الآلهة فى إله واحد هو معبوده آتون. ولم يجسد الملك أخناتون إلهه الجديد فى شكل آدمى على الإطلاق. وكانت فكرة العدالة والنظام الكونى جزءا من ديانة أخناتون الجديدة. وكانت فكرة النور والضياء جزءا لا يتجزأ من الدعوة الآتونية فى مقابل الظلام وقوى الفوضى. ولا تنطوى دعوة أخناتون على فكرة التوحيد كما نعرفها حاليًا، وإنما كان الهدف من تلك الدعوة بدمج المعبودات فى إله واحد هدفا سياسيا كى يحد من سيطرة المعبود آمون رع وكهنته على الحكم فى تلك الفترة. وحاول أخناتون أن ينجح فى ذلك، لكن الحظ لم يحالفه طويلا؛ نظرًا لوقوعه فى عدد من الأخطاء الكارثية الكبيرة، وكذلك إنغلاق دعوته، وقيامها على شخصه وأفراد عائلته فقط، وتسرعه وقصر فترة حكمه، واعتماده على عدد من المنافقين والمنتفعين الذين انقلبوا عليه حين انتهت دعوته وانفضت دولته وخارت قواها.
العائلة الملكية
واحتلت العائلة الملكية مكانة متميزة ضمن دولة أخناتون ودعوته وقاموا بوظائف ومهام عديدة من أجل مساندة الفرعون. غير أن الملك أخناتون كان هو القوة الدافعة وراء كل مظاهر التغيير فى عصر العمارنة. وتظهر العائلة الملكية فى عصر العمارنة فى الأعمال الفنية فى مناظر جديدة لم يعرفها الفن المصرى القديم من قبل ذلك العصر؛ فنرى العائلة الملكية فى مناظر تبكي وتحزن على وفاة إحدى بناتها أو حفيداتها. وكذلك نرى الملك أخناتون والملكة نفرتيتى فى مشاهد حميمية تحدث بين زوج وزوجته لم نشاهدها من قبل فى مناظر الفن المصرى القديم. وفى مناظر أخرى، نرى الملك والملكة مع بناتهما ورجال البلاط وحتى مع حيوانات الصحراء يحيون الشمس المشرقة التى تظهر على حافة الأفق الشرقية. وظهرت الملكة نفرتيتى وبناتها فى تماثيل فنية تعبر عن حسية واضحة تظهر معالم ومفاتن الجسد الأنثوى بشكل فني لم يسبق له مثيل فى الفن المصرى القديم على الإطلاق. أو أن نرى الملك والملكة وبعضا من بناتهما يجلسون فى جلسة عائلية جديدة على الفن المصرى القديم. كل هذه الأشياء وغيرها الكثير أكدت على عظم دور أخناتون وعائلته فى نشر دعوته الدينية الجديدة.
أخناتون في تل العمارنة
وتعتبر العمارنة، أو تل العمارنة، واسمها القديم «آخت آتون» ويعنى «أفق قرص الشمس»، هى عاصمة مصر فى عهد الملك أخناتون ومركز ديانة الدولة الجديدة التى قدمت فى ذلك العصر. ويوجد مكانها الحالى فى منطقة تل العمارنة فى شرق نهر النيل فى محافظة المنيا فى مصر الوسطى. وكان الملك أخناتون قد ترك عاصمة مصر العريقة طيبة (مدينة الأقصر الحالية فى صعيد مصر) وأنشأ عاصمته الجديدة «آخت آتون» فى بقعة جديدة طاهرة لم يدنسها وجود أى قوم أو عبادة أى إله من قبل كما ذكرنا آنفا. وهجرت المدينة فى بداية عهد الملك توت عنخ آمون بعد حوالي خمس عشرة عاما من تأسيسها. ولم يعرف سبب اختيار الملك أخناتون لهذا الخليج الواسع على الضفة الشرقية لنهر النيل غير أن مظهر الأرض هناك يشبه علامة الأفق الهيروغليفية بشكل كبير وواضح. وحددت حدود مدينة أخناتون بسلسلة من اللوحات كانت محيطة بالمنطقة على ضفتى النهر. وعلى قصر عمر تلك المدينة، فإن أعمال الحفائر الأثرية بها أنتجت عددا من الروائع الفنية لعل من أشهرها تماثيل العائلة الملكية للملك أخناتون والملكة نفرتيتى وبناتهما ويعد التمثال النصفى للملكة نفرتيتى من أبرز تلك الأمثلة الفنية رائعة الجودة. وضمت المدينة عددا من القصور والمبانى الملكية مثل القصر الشمالى والقصر الكبير ونافذة التجليات والمعابد مثل معبد آتون الكبير المعروف بـ «بر-آتون-إم-آخت-آتون» (أى «معبد آتون فى آخت آتون»)، والبيوت مثل بيت النحات تحوتمس والوزير نخت وغيرهما، والمقابر مثل مقبرة أخناتون التى وجد بها بعض البقايا من التابوت الجرانيتى للملك وصندوق الأوانى الكانوبية الخاصة بحفظ أحشاء الملك الداخلية، والمبانى الحكومية والورش ومراسم الفنانين مثل مرسم الفنان تحوتمس، وقرية العمال التى تقع إلى الشرق من مركز المدينة. وكانت الحياة فى مدينة تل العمارنة عامرة بالحياة والعديد من الأنشطة من قبل الملك وعائلته وحاشيته وكبار رجال دولته وكثير من الأفراد كما تظهر ذلك الأعمال الفنية القادمة من تلك الفترة القصيرة والثرية فى الوقت ذاته.