بقلم : نعمة الله رياض
يقال إن “النصاب” إذا وُلد، وُلدت أمامه ألف ضحية!!، وسأحكي لكم قصة لصاحبنا مع المحتالين والنصابين .. فقصص النصب والاحتيال لا تعد ولا تحصى، سواء اليوم أو على امتداد التاريخ .. وليس غريبا أن يتعرض هو أو غيره لهذا الكم من الخدع التي تترك أثاراً سيئة للغاية في نفس الضحايا ..
في الستينات من القرن الماضي ، تم قبول صاحبنا كطالب في جامعة القاهرة ، إستأجر شقة صغيرة في الدور الثالث العلوي في منزل بحي شعبي بالقاهرة ، حيث أن محافظته بعيدة عن القاهرة وليست بها جامعات اقليمية ، كانت الشقة رغم تواضعها تفي بالغرض الذي أتي من أجله ألا وهو الدراسة .. تخرج من الجامعة وأنهي الخدمة العسكرية الإلزاميه ، وتم تعيينه في وظيفة بالقاهرة وأستمرت إقامته في شقته الصغيرة بمفرده .. مرت الأعوام حتي جاء الوقت الذي فكر فيه بالإرتباط بشريكة لحياته، ولكن كيف يتقدم وهو لا يدخر نقوداً حتي لثمن خاتمي الزواج ؟! وهل تقبل من يتقدم لها الإقامة فى شقته المتواضعه ؟ أسئلة كانت تدور في ذهنه وهو يعرضها علي والديه.. قال أبوه : – لا تحمل هماً يا بني ، فقط إختار فتاة مناسبة للزواج ، وليدبر الله الباقي .. علي مدار عام كامل كان يقوم بزيارة عديداً من الأسر مع والديه وكانوا يقابلون بالترحاب ، ولكن عندما يتطرق الحديث إلي شقته الضيقة بالحي الشعبي والمرشحة لتكون عشاً للزوجية ، يقابل بالرفض القاطع.. تقوقع صاحبنا علي نفسه ، وداهمه شعور آسر بالإحباط، وتوقف بحثة عن شقة مناسبه للزواج عندما صدرت قرارات بتخفيضات متتالية لإيجارات المساكن، فإمتنع أصحاب العقارات عن تأجير شققهم وعرضوها للتمليك، وإستحكمت بذلك أزمة المساكن ، وإصبح لزاماً عليه أن يوفر المال اللازم لدفع مقدم لشقة تمليك .. إنكب علي العمل الوظيفي ، وإلتحق بعمل إضافي لكنز المال وإنشغل بإدارة مدخراته في البنك ، ووضع نصب عينيه أن يدخر مبلغاً مناسباً يجعله جديراً بالتقدم للزواج .. وهكذا عاود التقدم للزواج عارضاً الإقامة في شقته الصغيرة مؤقتاً حتي يحجز ويستلم شقة بحي أرقي يتم تجهيزها خلال مدة وجيزة .. وبالفعل وافقت فتاة وأسرتها علي الإرتباط به ، وتم بذلك تحقيق بعضاً من حلمه ، ولتحقيق باقي الحلم كان عليه هو وزوجته إدخار كل ما يمكنهما جمعه من مال ، لكن ذلك لم يكن يفي المتطلبات المغالي فيها لأصحاب الشقق المعروضة للبيع ، إستمر بحثهما وبإلحاح متواصل من زوجته التي أخبرته أنها حامل وأصبحت الحاجة ماسة لشقة أوسع .. سأل زميل له في العمل يسكن في مدينة نصر عن أسعار الشقق في منطقته، أجاب زميله بأنها معتدلة نظراً لإن مدينة نصر ما زالت حديثة الإنشاء في الصحراء شرق حي مصر الجديدة ، وسأله هل تفكر في شراء شقة فيها ؟ أجاب صاحبنا: نعم إذا كان المقدم المطلوب يمكن تدبيره وأقساطه مريحة ، وقد إدخرت حتي الآن خمسة آلاف جنيهاً ( وهو مبلغ ضخم في هذا الوقت فالبيضة كانت تباع بعشرة مليمات، والخروف الحي سعره خمسة جنيهات) ، أجاب زميله :هذا يكفي كمقدم ، عليك بالمعلم حلمي إنه يمتلك قطعة أرض بتقسيم معتمد وينوي بناء عمارة عليها فى وقت قريب ، اسرع بحجز شقة عنده فأسعاره معتدله للغاية ، وإذا كنت تريد مقابلته ، سأعطيك عنوان متجره في شبرا إنه يبيع اللب والفول السوداني والشوكولاته والحلوي ..
إتصل صاحبنا تليفونياً بالعم حلمى وطلب منه معاينة قطعة الأرض بمدينة نصر، ثم ذهب مع زوجته بعد ذلك لزيارته في متجره ، أطلعه العم حلمي علي الرسومات الهندسية للعمارة وتقسيم كل دور لإربع شقق، ونموذج عقد التمليك الإبتدائي .. لم يضيع صاحبنا الوقت ، فهناك فرص في الحياة لا تأتي إلا مرة واحدة ، وقع نسختي العقد وإختار موقع الشقة ومساحتها، فتحت زوجته حقيبة يدها وأخرجت خمسة آلاف جنيه ملفوفة بعناية في منديل حريري، قبلت النقود وأعطتها بيد وجلة للعم حلمي وهي تقول له : يعلم الله كيف دبرنا هذه النقود يا معلم ، فقال لهما : شقة مبروكة عليكما وأعطاهما علبة بها كيلو شوكولاتة هدية من متجره !
لم تمر علي زيارتهما للمعلم حلمي سوي أربعة أيام، عندما نشرت صحف الصباح أنباء عن هروبه مع عائلته وأقاربه وعددهم اربعون شخصاً في طائرة واحدة إلي دوله لا توجد لها مع مصر إتفاقية تسليم مجرمين ، وذلك خوفاً من سخط وإنتقام الحاجزين للشقق التي لم تبني بعد وعددهم يتعدي الخمسمائة حاجز!!.. وقع الخبر كالصاعقة علي صاحبنا وزوجته فقد حدث ما لم يكن في الحسبان وفقدا كل مدخاراتهما فجأة .. إنهارت زوجته وانهمرت دموعها مدراراً تبكي حظها العاثر ، وجلس صاحبنا بلا حراك وتفتت نفسه إلي ذرات كثيرة تهوي إلي قاع سحيق مظلم ، وأدرك معني أن تبني الآمال في سنوات، وتنهار في ثواني.. لم يكن في مقدورهما الكلام وساد بينهما صمت كامل ولكنه كان دوياً مقبضاً .. برغم كل شئ تمر الأيام وتفقد الأحزان ثقلها ، وبصعوبة تغلب علي الألم بشعور أقوي من الحزن والبكاء ،وإستعاد رهبة اللحظة الحاضرة ، أدرك أن هؤلاء النصابين كالثقوب السوداء لا هم لهم إلا إبتلاع آمال الضحايا .. وإذا خدع النصابون آلافاً من الناس، فليحارب بنفس أسلحتهم ويخدع هو بنفسه أيضاً آلاف مثلهم !!.. أقنع زوجتة بما ينوي، وطلب منها أن تستأجر شقة مفروشة كمكتب في منطقة الدقي ، وأعطاها بطاقة رقم قومي لسيدة متوفية تحصل عليها ، وطلب منها أن ترتدى نقاباً وتضع نظارة شمس فوق عينيها وهي تستأجر الشقة ، بعد ذلك ستنشر إعلاناً في الصحيفة وتقدم لهم بطاقة الرقم القومي للسيدة المتوفية ، سيتضمن الإعلان نشاط المشروع في تربية المواشي وتصدير المحاصيل الزراعية ، ووعد بربح مضمون، وطلب من المهتمين الحضور لشراء الأسهم المحدودة العدد للمشروع .. تم إستأجار الشقة وجهزت باثاث مكتبي وطبعت نسخ أنيقة للتعريف بالمشروع وتعهد فيها بربح شهري ثابت قيمته 30% من قيمة كل سهم ، إقترض من والده ثلاثة الآف جنيها وتم إفتتاح المكتب ، وتوافد الطامعون في مكسب سريع وسهل وإشتروا أسهم متزايدة العدد يوماً بعد يوم ، ولم يعطوا لأنفسهم وقتاً للتحقق من صحة المشروع . فحالات الفقر وغياب الاستثمارات الحقيقية المحمية بالقانون ، يدفع أعداداً هائلة من الناس للإيمان بأي مشروع يُعرض عليها، خاصة إذا صبغ بعبارات دينية. وكان صاحبنا يصرف أرباح العملاء الأقدم بأموال العملاء الأحدث ، وعندما وصل لحد معين من الأموال التي تم تحصيلها وكانت أكثر بكثير من الأرباح التي تم صرفها ، إختفيا عن الأتظار وتركا الشقة وذهبا لعملهما الوظيفي في اليوم التالي بملابسهما العادية !!…
إقتنع بأسلوبه في الإنتقام لخسارته ، فلا أحد يخدع الطماع إلا الكذاب ، وخطة النصاب بوجه عام ، هي إغراء الضحية بمكسب أولي سريع وسهل ، مما يجعله يطمع في مكسب أكبر ، حتي لو كان المكسب الأولي : هدية كيلو شوكولاته !!
نجحت عملية النصب التي قام بها ، وفكر في خطة محكمة أخري، وإبتكر طريقة يستولي بواسطتها علي أموال طائلة ، فقد إستأجر سيارة فارهة وإرتدى ملابس فاخرة وكان يبدو عليه علامات الثراء، وقام بزيارة إحدى البلدات النائية بالوجه البحري ، ومعظم القاطنين فيها ممن يحترفون مهنة صناعة الأثاث ، وكان الشباب فيها حاصلين علي مؤهلات جامعية ، ولكنهم إما عاطلون أو يعملون في ورش النجارة المنتشرة في البلدة ، حضر الصلاة مع أهالي البلدة وبعد الصلاه طلب التحدث مع كبير البلدة ليتناقش معه عن حالة دار العبادة المتهالكة ، وأعطى له مبلغ 40 ألف جنيه تبرع لتجديدها على نفقته الخاصة لوجه الله ورفض ابلاغهم بإسمه أو أى بيانات عنه ، حتى تقبل عند الله ، وبعد ثلاثة أسابيع ، حضر ليجد دار العبادة قد تم تجديدها ، فاعطى كبير البلدة مبلغ 40الف جنيه أخري لبناء مبني للخدمات الصحية في فناء الدار ، وفى كل مرة يأتى بسيارة مستأجرة مختلفة وفاخرة وجميع أهل البلدة يستقبلونه ويودعونه بالدعاء والشكر ، وبعد اسبوعين حضر لمتابعة أعمال البناء ، وتحدث مع كبار أهل البلدة على الظروف الصعبة التى يعيشونها والبطاله التى يعاني منها شبابها ، فعرض معاونتهم فى البحث عن فرص عمل بالخارج وطلب منهم تجميع 300 جواز سفر للشباب المتعلم الذين يرغبون فى فرص عمل بالخارج ومبلغ 3 آلاف جنيه مع كل جواز وأنه بعون الله وعلاقاته بالمسؤلين سيحضر لهم تأشيرات عمل بألمانيا وفرنسا وسوف يحضر بعد اسبوع واحد لتسليمها لهم ، وبالفعل تم له ما طلب ، وبعد إنصرافه فوجئ حارس الدار بجوازات شباب القرية ملقاه في صندوق القمامة خارج باب الدار ، وإكتشفوا أنهم كانوا ضحايا لنصاب دفع حوالى 80 الف جنيه للبناء والتجديدات واستولى منهم على 900 ألف جنيه خلال شهر واحد وإختفي بعدها ، ولم يعثر له أحد علي أثر ، وخلف الحسرة والألم لإهالي البلدة الفقراء، وإغتال أحلامهم وآمالهم.