بقلم / مسعود معلوف
سفير متقاعد
عندما قامت إسرائيل بحربها على قطاع غزة بعد العملية التي نفذتها حركة حماس داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة وذهب ضحيتها 1400 إسرائيلي وتم اختطاف حوالى 240 رهينة إسرائيلية، لم تتأخر الولايات المتحدة في التعبير عن تأييدها المطلق لإسرائيل، قولا وفعلا، إذ أرسلت بصورة فورية حاملة الطائرات جيرالد فورد التي هي أكبر وأقوى قطعة بحرية عسكرية في العالم، كما قام الرئيس الأميركي جو بايدن بزيارة إسرائيل للتعبير عن تأييده اللامحدود، وأوفد وزير خارجيته الذي زار تل أبيب أربع مرات حتى الآن، كما زار تل أبيب غيره من كبار المسوؤلين الأميركيين مثل وزير الدفاع، علما أن التصريحات الأميركية الرسمية الداعمة لإسرائيل لم تتوقف.
وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلنكن صرح في أول زيارة له بعد انطلاق العمليات العسكرية بأنه يزور إسرائيل ليس فقط كوزير للخارجية الأميركية بل أيضا كيهودي، ثم أعلن أن إسرائيل لا تملك الحق في الدفاع عن نفسها فحسب، بل عليها أيضا واجب في القيام بذلك. وقلما يمر يوم دون أن يتحدث فيه الرئيس بايدن مع رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو مرة أو أكثر ليكرر التعبير عن التأييد الأميركي التام لإسرائيل، كما أنه أرسل حاملة الطائرات آيزنهاور بالإضافة الى القطعة الأولى لمزيد من الدعم العسكري للدولة العبرية.
على خلفية هذا الدعم الأميركي المطلق الذي رافقه دعم أوروبي مماثل على أعلى المستويات، نفذ الجيش الإسرائيلي عملياته العسكرية الوحشية على القطاع دون توقف، عبر قصف بالطائرات والصواريخ والمدفعية حيث زاد عدد الضحايا عن عشرة آلاف مواطن معظمهم من المدنيين ومن بينهم نسبة مرتفعة جدا من الأطفال والنساء، بالإضافة الى دمار يصعب وصفه في الأبنية السكنية والمدارس والمستشفيات. وقد تلا ذلك هجوم عسكري بري على القطاع ما زاد في الخسائر البشرية والمادية بشكل يكاد لا يصدق.
على أثر الخسائر البشرية الضخمة والعدد الهائل من الضحايا المدنيين الفلسطينيين، حصلت تحركات كبرى في الولايات المتحدة وفي دول أخرى منددة بما أصبح يعرف بالإبادة الجماعية التي تنفذها إسرائيل ضد الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، كما أن أعدادا كبيرة من المواطنين اليهود الأميركيين قاموا وما زالوا يقومون بتظاهرات للتعبير عن رفضهم للعمليات العسكرية الوحشية التي ينفذها الجيش الإسرائيلي.
لا بد من التوضيح هنا أن الولايات المتحدة دخلت منذ فترة في أجواء الحملة الإنتخابية الرئاسية والتشريعية، والإنتخابات ستجري بعد أقل من سنة من الآن، وأي قرار ينوي الرئيس بايدن وإدارته اتخاذه يتم دراسته على خلفية تأثيره على الناخب الأميركي. وفي هذا المجال، لا بد لأي مرشح من أن يأخذ في الإعتبار موقف اللوبي الإسرائيلي الذي يساهم مساهمة ملموسة في تمويل الحملات الإنتخابية للمرشحين الذين يعتبرهم أكثر تأييدا لإسرائيل من سواهم.
وتعبيرا عن معارضة الموقف الأميركي الداعم بصورة مطلقة لإسرائيل، تم تنظيم مظاهرة ضخمة في العاصمة واشنطن تأييدا للفلسطينيين شارك فيها ما يقارب مائة الف مواطن أميركي، كما أن الولايات التي فيها أعداد كبيرة من المواطنين من أصول عربية ومسلمة مثل ولاية ميشيغان وغيرها، بدأت تظهر تململا واضحا من موقف إدارة الرئيس بايدن الذي لا يستطيع تجاهل هذا التململ من قبل الناخبين في ولايات مثل ميشيغن كان فوزه فيها على خصمه دونالد ترامب في انتخابات عام 2020 بنسبة خجولة.
لهذه الأسباب بدأنا نلاحظ في مواقف الإدارة الأميركية بعض الإهتمام الظاهري بمصير المدنيين الفلسطينيين في غزة، وبدأت هذه الإدارة تنصح إسرائيل بتجنب قتل المدنيين أثناء قيام جيشها بعملياته العسكرية، ولكن هذه المواقف الجديدة يرافقها دائما التأكيد الأميركي على حق أسرائيل وواجبها في الدفاع عن نفسها.
وقد تطورت هذه المواقف الأميركية الداعية لحماية المدنيين الى المطالبة من إسرائيل بهدنة إنسانية مؤقتة تمكينا لإدخال المواد الغذائية والأدوية عبر معبر رفح وتمكينا للمواطنين حاملي جنسيات أخرى، خاصة أميركية، من مغادرة قطاع غزة عبر هذا المعبر، ولكن هذه المطالبة الأميركية بهدنة مؤقتة إنسانية والتي مازالت إسرائيل ترفضها عند كتابة هذه الأسطر، كان يرافقها باستمرار رفض أميركي واضح لأية مطالبة من أية جهة كانت لوقف دائم لإطلاق النار.
جدير بالإشارة هنا الى ان وزير الخارجية الأميركية أنتوني بلنكن، أثناء زيارته الرابعة لإسرائيل، انتقل الى العاصمة الأردنية عمان حيث عقد اجتماعات مع وزراء خارجية كل من الأردن، والمملكة العربية السعودية، والإمارات العربية المتحدة، ومصر وقطر، بالإضافة الى اجتماع عقده مع رئيس حكومة تصريف الأعمال اللبناني نجيب ميقاتي واجتماع مع العاهل الاردني، وفي هذه الإجتماعات كما في المؤتمر الصحفي الذي عقده بالإشتراك مع وزيري خارجية مصر والأردن، كرر المطالبة بهدنة إنسانية مؤقتة مع تأكيد رفضه لوقف إطلاق النار وتكرار إعلانه عن حق إسرائيل وواجبها في الدفاع عن نفسها وحماية شعبها، بينما أصر المسؤولون العرب على ضرورة البدء بوقف إطلاق النار وإيقاف العمليات العسكرية في سبيل معالجة الأزمة.
من جهة ثانية، ولتهدئة موجة الغضب المتزايدة ضد الرئيس بايدن، بدأ وزير الخارجية بلنكن بالتلميح، سواء في مواقف علنية أو في خلال اجتماعاته مع مسؤولين من الدول العربية بمن فيهم رئيس السلطة الوطنية الفلسطينية محمود عباس، الى ضرورة البدء بالتفكير بما بعد الحرب على غزة، وبضرورة البحث في مسألة حل الدولتين وإقامة دولة فلسطينية، ولا شك أن مثل هذه المواقف الأميركية لم تؤخذ على محمل الجد من قبل الجانب العربي إجمالا لمعرفة الجميع بأن مثل هذه الحلول تأخذ وقتا طويلا للوصول إليها، والأولوية الآن هي لإيقاف المجازر التي ترتكبها إسرائيل بحق الفلسطينيين في غزة، كما أن العديد من المسؤولين العرب مقتنعون بأن هذه التصريحات ليست سوى مناروات كلامية للتخفيف من المعارضة العربية للدعم الأميركي الأعمى لإسرائيل.
وأحد التناقضات الواضحة في الموقف الأميركي في حرب إسرائيل على غزة يظهر عندما يطالب الوزير بلنكن بهدنة إنسانية مؤقتة لإدخال بعض المساعدات الضرورية للمواطنين في غزة ويرفض في الوقت نفسه أي حديث عن وقف لإطلاق النار، مع تأكيده العلني والمتكرر على حق إسرائيل وواجبها في الدفاع عن نفسها في الوقت الذي تقوم فيه هذه الأخيرة بما يصفه الكثيرون بإبادة جماعية، مما يعني ان الولايات المتحدة تطالب إسرائيل بالسماح بإدخال بعض المساعدات الإنسانية الى غزة لفترة قصيرة على أن تعاود بعد ذلك قصفها للقطاع وتطويقها له مع ما يرافق ذلك من قتل واضرار جسيمة للمدنيين.
أما التناقض الآخر، فهو يظهر عندما تدعي الادارة الاميركية انها مستاءة من عدم قبول اسرائيل بهدنة انسانية مؤقتة ولكنها تستمر بإغداق المساعدات العسكرية والمالية عليها دون حدود، وهذا ما يجعل بعض المراقبين يتساءلون إن كانت الولايات المتحدة صادقة في التعبير عن قلة رضاها على تصرفات إسرائيل لدرجة أن العضو في مجلس الشيوخ الأميركي بيرني ساندرس، وهو يهودي، أعلن في مقابلة نلفزيونية بأسلوب لا لبس فيه أن على الإدارة الأميركية فرض موقفها على إسرائيل لقاء مليارات الدولارات التي تمنحها إياها سنويا، وفي حال لم تقبل إسرائيل بالموقف الأميركي ينبغي إيقاف هذه المساعدات.
حتى الآن قامت كل من الأردن وتركيا باستدعاء سفيرها من إسرائيل وربما، في حال استمرار نتنياهو في مواقفه الرافضة لأي وقف لإطلاق النار ومتابعته في قتل المدنيين الفلسطينيين بما يمكن وصفه بجرائم حرب، فقد تقوم دول أخرى عربية وغير عربية بتخفيض علاقاتها مع إسرائيل وبالإبتعاد تدريجا عن الولايات المتحدة، علما أن أي ضرر يمكن أن يلحق بالمصالح الأميركية في العالم قد يستغله أخصام الرئيس بايدن في الحملة الإنتخابية ويزيدون في انتقادهم له عبر التركيز على انه رئيس ضعيف بسبب تقدمه في السن وعدم تمكنه من اتخاذ قرارات صائبة تحافظ على المصالح الأميركية.
والسؤال الذي يطرح نفسه الآن هو: ماذا ستفعل الولايات المتحدة بالنسبة الى تصريح نتنياهو بأن إسرائيل ستبقى في غزة الى ما شاء الله، وهل ستتخذ موقفا من هذا التطور الخطير الذي يحول دون تحقيق سياسة بايدن المعلنة بشأن حل الدولتين؟ وهل سترفض وزارة الخارجية الأميركية، على غرار ما فعلته الخارجية الروسية، دعوة أحد الوزراء الإسرائيليين قصف قطاع غزة بالسلاح النووي والقضاء على جميع الفلسطينيين المقيمين فيه؟ بالخلاصة، هل ستستطيع الإدارة الأميركية إزالة التناقضات الكبرى التي تتميز بها سياستها في هذه القضية؟