بقلم: محمد منسي قنديل
هدية العام الجديد لنا هي اسكات صوت إبراهيم عيسى، لم يعد البعض يطيق صوته المتفرد الصارخ في البرية، اختاروا ان نكون جزءا من القطيع، أصواتنا مجرد همهمات اشبه بالثغاء، عامنا الجديد هو عام الثغاء، لا احد يعترض أو ينصح أو يغرد خارج السرب حتى ولو كان متوجها للجحيم، أيام لا تناسب أشخاصا من نوعية إبراهيم عيسى، الذين ولدوا حتى يعترضوا، أغلقت أبواب الحوار، واصبح الكلام يسير في اتجاه واحد، أوامر لا ترد، كل أصوات يناير قد أرغمت على الصمت، بعضها توارى في الظل، وبعضها حاول التأقلم مع الواقع الجديد، وبعضها فضل أن يغادر ويبتعد، ولكن إبراهيم كان عنيدا، رفض الصمت والمهادنة وظل يصيح بأعلى صوته متحدثا بما يراه صحيحا دون مبالاة بالعواقب.
لم يتغير إبراهيم كثيرا منذ ظهوره الأول في عالم الصحافة عندما كان فقط في السنة الأولى في كلية الاعلام، حتى ظهوره، الذي أتمنى آلا يكون، الأخير في شرم الشيخ، لا اعتقد أن هذا الظهور الأخير كان في تلك الحلقة المسجلة التي اذاعتها قناة «القاهرة والناس» في نهاية العام، ولكن قرار الحجب قد اتخذ قبل ذلك بحوالي شهرين، في السادس والعشرين من أكتوبر الماضي، عندما جلس إبراهيم على منصة مؤتمر الشباب، كانت الندوة تناقش تأثير وسائل الاعلام في وعي المواطنين، لم يجعله وجوده في حضرة الرئيس يرتدي زي التملق كما هي عادة البعض، ولكنه وضع أصبعه مباشرة على جرح الديمقراطية التي لا تستقيم مع القمع أو حجب الرأي الآخر، فلا أحد يفتح السجون لأصحاب الراي إلا ثلاثة من الدول المتخلفة، ولا يجب أن تكون مصر واحدة منها، وطالب إبراهيم بالإفراج عن أسماء بعض من هؤلاء السجناء، ولم يرض ذلك الموقف الشجاع بعض سدنة النظام، فقد قاطعه صحفي شاب يعمل مشرفا على اللجان الإلكترونية الموالية للنظام، وهاجمه ذئب إعلامي عجوز آخر متهما إياه أنه يريد أن يكون زعيما سياسيا، وهكذا بدأت اصوات الحجب والاقصاء تمارس عملها ، وكان يجب أن تصل اصدائها إلى مجلس النواب المختار ويشارك فيها بعضا من أعضائه حتى تكتمل الجوقة، وأن تتدخل بعض الأجهزة لتحول عملية الاقصاء إلى فعل، وتفرض استار الاظلام على شاشة إبراهيم عيسى.
لا اعتقد، ولا اود أن يكون هذا هو الظهور الأخير له، فهو لا يملك حضورا حيا فقط، ولكنه يملك ما لا يمكن سلبه، قلما موهوبا قادرا على التعبير والنزال معا، وكما يقال فالموهبة تفصح عن نفسها من لحظتها الأولى، في الثامنة والعشرين من عمره انجز روايته الأولى «مريم.. التجلي الأخير»، عمر صغير بالنسبة لروائي، لكنه كان مبهرا، ووضع على الورق جزءا من حياته المبكرة، بكل ما فيها من سذاجة ومثابرة وعفوية، تحدث عن أيام الجامعة وسفره اليومي بين بلدته الريفية والكلية في القاهرة، ومظاهرات الطلبة والتصدي العنيف من الشرطة، ثم بداية عمله في دنيا الصحافة وما يدور داخلها من دسائس، ولكن المثير هنا هو افتتاحية الرواية، أو «الفان فار» بلغة الموسيقى، فرغم أنها معاصرة، إلا أن المؤلف اختار بداية من التاريخ الديني القديم، لمحة من قصة نبي الله إبراهيم ، ولعل سبب الاختيار هو توافق الأسماء، لكنه ركز على لحظة التمرد الجوهرية في حياة هذا النبي، حين دخل إلى معبد قومه ووقف متحديا الأصنام الحجرية، الآلهة الصامتة التي تشل الحياة من حوله، لم يعترف سيدنا إبراهيم بقدسيتها الزائفة فأمسك فأسه وأخذ يحطمها، التمثال تلو الأخرى، وفي النهاية علق الفأس في عنق كبيرها، لكنه يضع نهاية مختلفة للحكاية، فالأصنام لم تتحطم، كانت اقوى من أن تستسلم لضربات فأس من شاب صغير، ولكن يبقى قيمة الفعل الأساسي، فعل التمرد.
هذا هو ما ظل إبراهيم عيسى عليه، عدم تقديس كل أنواع الآلهة الزائفة، تلك التي يصنعها البشر ثم يعبدونها، عندما كان عمره خمس سنوات مات عبد الناصر، ومر عهد السادات عليه مرورا سريعا، وعندما تفتح وعيه وبدأ حياته العملية كان مبارك قابضا على زمام السلطة، وبدا أن حكمه قويا وابديا، تحول إلى إله حجري من الصعب زحزحته أو مناوئته أو حتى تعليق الفأس حول عنقه، وشهد إبراهيم عيسى مصر وهي تتدهور في عهده على كل المستويات، والحريات الشحيحة وهي تتناقص، كان عليه أن يحول قلمه إلى فأس ليحطم هذا الحاكم الصخري، في البداية لم يكن قلمه يحدث سوى بعض الخدوش، انشأ اكثر من جريدة وصودرت، وقدم اكثر من برنامج وتم اغلاقه، ولكنه ظل موجودا، تربطه شعرة رفيعة تربط بنظام مبارك، وكان النظام حريصا آلا يقطعها، كان يستفيد من هذه المعارضة على سخونتها لأنها تعطيه مسحة من مظهر الديمقراطية، وكان مبارك في اشد الحاجة إليها أمام الإدارة الامريكية، وقد تدخل مبارك شخصيا لإيقاف حكم قد صدر بسجنه، أحيانا كان النظام من طول ممارسته للحكم يتمتع ببعض من الذكاء السياسي.
من المؤكد أن إبراهيم عيسى كان يكره نظام مبارك، يكره مدة حكمه التي طالت دون شرعيه، وفساده الذي انتشر دون رادع أو رقيب، وروح اليأس التي بثها في ربوع الوطن والتي دفعت الشباب لألقاء انفسهم في البحر، وكان يكره حكم مرسي لأنه يراه فردا من عصابة ترتدي مسوحا دينية لا تحمل مشروعا ولا فكرا عصريا صالحا لحكم بلد مثل مصر، لذلك كان عنيفا في معارضته، ولكنه لم يكن يكره النظام الحالي، وهو اول من سعى لاكتشاف شخصية عبد الفتاح السيسي عندما كان مرشحا للرئاسة، وكان يريد ان يأخذ الرجل فرصته كاملة، لكنه لم يكن يريد الانتظار حتى تصبح مصر دولة فاشلة تحت حكمه، فالسلطة المطلقة مفسدة مطلقة، وقد جربنا مغبة غياب الصوت الآخر تحت حكم مبارك، ولا يجب أن يتكرر ذلك الصمت المخجل مرة أخرى، لذلك لم يكن يتكلم فقط، كان يصيح حتى يسمعه الجميع، كان يركز دائما على ما يراه من سلبيات، وهي كثيرة، ويشير دائما للثغرات وكانت واضحة، فعل ذلك كله بدافع من حب الوطن وخوفه عليه، ومع توالي الصمت اصبح براهيم عيسى صوتا مفردا، لم تتغير أساليب الحجر القديمة، وحان الوقت ليصمت هو أيضا، المنافقون فقط من لهم حق الكلام والثناء والمديح، المنافقون فقط هم الأكثر سطوة، ومن السخرية أن النظام الذي احبه براهيم هو الذي قام بإبعاده.
ربما تختفي صورة إبراهيم عيسى من على شاشة التلفزيون لبعض الوقت، ولكنه سيظل قريبا من روح الوطن، لقد كان في حاجة للوقت حتى يخصصه للكتابة، وفي النهاية سنكسب نحن عشاق الأدب المزيد من قصصه ورواياته، وليهنأ كل الذين لا عمل لهم إلا النفاق فقد خلا لهم الجو، مؤقتا على الأقل..