بقلم / مسعود معلوف
سفير متقاعد
الديمقراطية كما هو معروف هي، بكل بساطة، حكم الشعب بنفسه، وإن أخذت أشكالا مختلفة حسب الدول التي تطبقها. أهم تجليات الديمقراطية في العالم هي في انتخاب ممثلين للشعب يتولون إصدار القوانين، مع حكومة تمثل السلطة التنفيذية وتسهر على تنفيذ هذه القوانين وتخضع لرقابة ممثلي الشعب المنتخبين.
في الولايات المتحدة الأميركية التي تعتبر نفسها مثالا للديمقراطية، ينتخب الشعب أعضاء مجلس النواب وأعضاء مجلس الشيوخ، والمجلسان يشكلان ما يعرف بالكونغرس الذي يمثل السلطة التشريعية. أما بالنسبة الى السلطة القضائية، فإن رئيس الدولة يعين القضاة ولكن تعيينهم لا يصبح نافذا إلا بعد مصادقة مجلس الشيوخ عليه.كذلك ينتخب الشعب ممثلي الحكم المحلي في الولايات كما أنه ينتخب أعضاء البلديات في مختلف المدن.
يمكن طبعا كتابة مجلدات عن تفاصيل الحياة الديمقراطية في الولايات المتحدة، ولكن سنتحدث هنا باختصار كلي عن حسنات وعيوب الديمقراطية الأميركية من خلال عرض مختصر جدا لأهم مظاهرها.
إذا كانت الديمقراطية تتجسد بانتخاب ممثلين للشعب في كل من مجلسي الكونغرس الأميركي، فلا بد في البداية من تحديد من هم الذين يحق لهم انتخاب هؤلاء الممثلين. جدير بالإشارة هنا الى ان حق الإقتراع تطور كثيرا منذ تأسيس الولايات المتحدة الى يومنا هذا. في الماضي، كان يحق الإقتراع فقط للمواطنين الذكور من العرق الأبيض الذين تجاوزوا الواحدة والعشرين من العمر، ولكن بعد الغاء العبودية بموجب التعديل الدستوري الثالث عشر عام 1865، تم اعتماد التعديل الخامس عشر عام 1870 الذي أعطي بموجبه حق الإقتراع للمواطنين الأميركيين من العرق الأسود، إلا أن عقبات كثيرة بقيت توضع في طريق السماح لهم بالتصويت عبر اعتماد عدد من الولايات قوانين محلية تقضي بإظهار مستوى من التعليم ودفع رسوم انتخابية وعقبات مختلفة دامت حتى العام 1965 عندما صدر قانون أيام الرئيس ليندون جونسون يسهل تصويت المواطنين من العرق الأسود.
وفي العام 1920، صدر التعديل التاسع عشر للدستور الذي تم بموجبه إعطاء حق التصويت للنساء بعد حملات نسائية مطالبة بهذا الحق دامت أكثر من أربعين عاما. كما تم في العام 1971اعتماد التعديل السادس والعشرين الذي خفض سن الإقتراع الى 18 عاما، وقد حصل ذلك أيام حرب فيتنام حيث كان سن التجنيد 18 عاما فكانت الفكرة السائدة التي تم على أساسها اعتماد هذا التعديل أن المواطن الذي يمكنه أن يحارب بعمر الثامنة عشر لا بد أن يكون له الحق في الإقتراع في هذا العمر أيضا.
أما المقيمون في الولايات المتحدة الذين لم يحصلوا بعد على الجنسية الأميركية، فلا يحق لهم الإقتراع، ولكن بعض الولايات، وفي أمور محلية بحتة ومحدودة جدا، تسمح للمقيمين الشرعيين غير الأميركيين بالإقتراع.
الى جانب كون الديمقراطية في الولايات المتحدة تعطي المواطنينالحق في الإقتراع، فهي أيضا تؤمن نوعا من المساواة بين جميع مواطني الدولة عبر المبدأ السائد بأن لكل مواطن صوت في الإنتخابات، كما أنها تحترم فصل السلطات بحيث أن كلا من السلطات الثلاث (التنفيذية والتشريعية والقضائية) لها استقلاليتها النسبية وفقا لمندرجات الدستور. يضاف الى ذلك أن أي خلاف قد يحصل على تفسير القوانين او تطبيقها يتم حله بواسطة المحكمة العليا التي لها الكلمة الفصل في هذه المسائل.
وإذا كانت الولايات المتحدة تعتبر نظامها الديمقراطي مثاليا وتسعى الى تصديره الى دول أخرى، فهذا لا يعني ان هذا النظام لا يشكو من عيوب ونواقص في طليعتها الدور الذي يلعبه المال في الحياة السياسية ولا سيما في الإنتخابات على جميع المستويات.
لا بد من التذكير هنا بما قاله سيناتور أميركي منذ حوالى مائة سنة في هذا الموضوع: “هنالك أمران هامان في الحياة السياسية، أولهما المال…والثاني لم أعد أذكره.” وفي ذلك ما يدل أن المال هو أحد أهم العناصر في السياسة الأميركية ويتجلى ذلك بصورة واضحة جدا في الإنتخابات على جميع المستويات من رئاسية وتشريعية ومحلية.
فالمرشح لأي منصب يبدأ حملته الإنتخابية بفتح حساب للحملة ويطلب من المؤيدين والمناصرين التبرع له من أجل تغطية نفقات الحملة، خاصة فيما يتعلق بالإعلانات التلفزيونية او بنفقات الإنتقال من مدينة الى أخرى داخل الولاية أو من ولاية الى أخرى إن كان مرشحا رئاسيا، وهي تكاليف باهظة، والمرشح الذي لا يستطيع تأمين نفقات حملة إعلامية واسعة النطاق أو السفر الى المناطق السكنية المختلفة واستئجار قاعات للإجتماع بالناخبين تكون حظوظ نجاحه أقل بكثير من المرشح الذي يستطيع تأمين هذه التكاليف.
على سبيل المثال، بلغت كلفة الانتخابات الرئاسية والتشريعية عام 2020 حوالى 14 مليار دولار، وهي أموال تبرعات لمجموع المرشحين بما في ذلك ما دفعه بعض المرشحين من أموالهم الخاصة لحملتهم الإنتخابية.لا بد من التوضيح أن هنالك رقابة جدية على كيفية صرف الأموال المخصصة للحملة الإنتخابية إذ أن المرشح الذي يخالف القانون ويتصرف بقسم ولو ضئيل من هذه الأموال لمصالح شخصية لا علاقة لها بالإنتخابات يتعرض لعقوبات قاسية.
من المفيد الإشارة هنا الى ان اللوبي اليهودي في الولايات المتحدة يستعمل بذكاء هذه الثغرة في النظام السياسي وهذا ما يمكنه، عبر تمويل الحملات الإنتخابية للمرشحين الذين يؤيدون إسرائيل، من أن يكون لليهود وجود بنسبة 7% في الكونغرس الإميركي بينما لا تزيد نسبتهم عن 2% من مجموع السكان الأميركيين.
ومن منطلق المساهمة المالية للمرشحين، فإن البعض يعتبر أن هذه المساهمة تشكل، إلى حد ما، نوعا من الرشوة السياسية، خاصة إذا ما أخذنا بالإعتبار مساهمة الشركات الكبرى بملايين الدولارات لحملات بعض المرشحين لقاء وعود سياسية معينة قد تتعلق بقوانين الضرائب أو التصدير أو أية أمور أخرى تهم هذه الشركات.
بالإضافة الى العنصر المالي، هنالك عيب آخر في النظام السياسي الديمقراطي الأميركي يتجسد في إمكانية تقسيم الدوائر الإنتخابية إذ يسمح الدستور للكونغرس المحلي الخاص بكل ولايةبالقيام بهذا العمل، فنرى أحيانا أن الحزب الذي يسيطر على الكونغرس في ولاية ما، يباشر الى إعادة رسم حدود بعض الدوائر الإنتخابية في هذه الولاية عبر سلخ مناطق له فيها أكثرية انتخابية في دائرة أخرى وضمها الى دائرة محاذية بحيث يصبح له أكثرية فيها، أو تقليص حجم دائرة انتخابية أخرى.
أما في الإنتخابات الرئاسية، فهنالك مشكلة أخرى لا بد من الإشارة إليها وهي أنه، بالرغم من ان الإقتراع يتم على مستوى الشعب بكامله، فأحيانا يفوز المرشح الذي لم يحصل على أكثرية الأصوات الشعبية مثلما فاز دونالد ترامب على منافسته هيلاري كلينتون عام 2016 مع أنها حصلت على حوالى ثلاثة ملايين صوتا أكثر منه، وذلك بسبب “الهيئة الإنتخابية” التي يعود لها في الختام صلاحية انتخاب الرئيس حسب الدستور، وهي مؤلفة من 538 عضوا يمثلون جميع الولايات حسب نسبة السكان في كل ولاية، وبنتيجة الإقتراع، فإن المرشح الذي يحصل على الأكثرية في الولاية يعتبر فائزا بجميع أصوات ممثلي هذه الولاية في الهيئة الإنتخابية. ومن هنا فإن المرشح الرئاسي الذي يحصل على 270 صوتا من أعضاء الهيئة الإنتخابية يعتبر الفائز بصرف النظر عن الأصوات الشعبية التي قد يكون قد حصل عليها. ونظرا لهذا الأمر فإن هنالك مطالبة من كثير من الجمعيات والأفراد بإلغاء “الهيئة الإنتخابية” والإعتماد على الأكثرية الشعبية.
هنالك عيوب أخرى في النظام الديمقراطي الأميركي، منها أن وجود حزبين يسيطران على الحياة السياسية في البلد يحول دون ظهور حزب آخر ولا يدع فرصة لفوز المستقلين، كما أن تأييد أكثرية المواطنين من العرق الأسود للحزب الديمقراطي يجعل الحزب الجمهوري، في الولايات التي يسيطر عليها سياسيا، يضع أحيانا عراقيل في طريق وصول هذه الفئة من المواطنين الى صناديق الإقتراع عبر طلب مستندات يصعب على قسم منهم تأمينها.
ولكن بمطلق الأحوال، ومع وجود كل هذه العيوب في النظام الديمقراطي الأميركي، تبقى الديمقراطية دون أدنى شك أفضل بكثير من الأنظمة الدكتاتورية حيث لا يسمح للمواطن بإبداء رأيه، أو انتقاد الحكم، او التجمع في جمعيات سياسية لها مواقف غير مؤيدة للحكم، ولا يوجد فيها تداول للسلطة. ففي النظام الأميركي، مع عيوبه وعلاته، هنالك تداول للسلطة عبر انتخابات شرعية، كما أن فيه إعلام حر ينتقد الدولة والحكم بصورة علنية بحيث يستطيع الشعب التمييز بين فريق وآخر.