ترجمة: إدوار ثابت
لقد كتبت من قبل عن حكايات الشاعر الفرنسي لافونتين وعن قيمتها الأدبية والفنية وقلت فيها رأياً عن أصلها التاريخي يختلف عن الرأي الشائع فيه وها نحن الآن نترجمها ونحلل ما بها من مضمون ونبرز معه مغزاها الأدبي .
يختلف الناس فيما بينهم في رغبتهم في الادخار وفي قدرتهم عليه ففئة منهم توفر المال وفئة غيرها تنصرف عنه ولاتأبه به ، والفئة فيهما تنقسم إلى فرعين ففرع من الأولى يسعى إليه دون هدف منه إلا الحرص على المال ويتضمن هدا هؤلاء البخلاء الذين يكرسون مبادئهم في تكديسه مع أختلافهم في شدته وضعفه ومع أختلافهم في الغني والفقر فبعضهم من يمتنع عن كل ما يرفه عنه عند صرفه فبعضهم يتساهل في ذلك بعض الشئ أما الفرع الثاني من الذين يسعون إلى الأدخار فهم من يضعون هدفاً أمامهم له فمنهم من يدخره لينفقه بعض فترة تطول أو تقصر في شيء يرغب فيه ومنهم من يدخر خشية أن يحتاج يوماً إلى المال فلا يتوفر عنده ما يسد أحتياجه أما الفئة الثانية التي لا تتدخر فهو كالفئة الأولى فرعان ولكنهما يختلفان أختلافاً قوياً في وضعهما الاجتماعي والمالي وهما الأغنياء المفرطون في الغنى والفقراء المعدمون في فقرهم فالأغنياء لا يدخرون لأن ما يمتلكنوه هو وحده ادخار عنده أما المعدموم فهم الذين لا يجدون ما يتوفر لهم حتى يدخروه وهم الذين يقترون على أنفسهم فلا يظل بعده عندهم إلا ما يسد رمقهم ولكن هناك فئة ثالثة تختلف عن أولئك وهؤلاء وهي فئة تمتلك الفرصة للادخار ولكنها تتهاون فيها فتصرف المال دون وعي وبلا ادراك فيأتي يوم أو أيام تحتاج إليه فيتأزم وضعها ويتعقد وهذه هي الفئة التي يتحدث عنها الكاتب جان دو لافونتين في حكايته هذه : الصرصار والنملة . هذه الحكاية تبرز مع قيمة الادخار قيمة العمل فالعمل أولاً هو المصدر الأساسي لكسب العيش وهو بعد ذلك يعطي للإنسان مكانته الاجتماعية وهي توضح أهمية الادخار وأن ينظر الإنسان إلى المستقبل فلا يتمسك باللحظة الحاضرة فقط من غير أن يراعي ما يمكن أن يحتاج إليه في الغد ولها مع ذلك مغزى سياسي يرتبط بتلك الفترة التي كتب فيها الشاعر حكايته وهي حكاية ارشادية وتعليمية ، بسيطة وسهلة الفهم ليس بها أي تعقيد أو غموض يحتاجان إلى البحث فيهما فمغزاها ضمني يبدو بعد قراءتها دون أن يضطر من يقرؤها إلى أن يسعى إلى تفسيرها .
الصرصار والنملة : الأثنان يتشابهان في أمر ويختلفان في أمر فهما في الصيف عندما يحلو الجو يتجولان ليبحثا عما يلتقطناه من طعام وغذاء يحصلان عليهما في سهولة ويسر فإذا أقبل الشتاء وهطل المطر فغمر الفضاء بالمياه يختبئان فمكانهما فينزوي الصرصار في جحوره وتلجأ النملة إلى أعشاشها أتقاءً من البرد القارس ومن أنهمار الأمطار ولكنهما يختلفان فالنملة وصاحبتها ينشطن في الصيف ليحصلن على قدر من الطعام فيحملن الغذاء يختزنّه ويقتصدن في أعشاشهن لأيام الشتاء يراعين فيه ما يحتجن إليه منه أما الصرصار فلا يفعل ما تفعله النملة ينساه أو يتناسه أو لا يأبه به أو لأن هذا العمل ليس من شيمته وعلى الرغم من أن لافونتين يوضح هذا المضمون إلا أننا نشك في أن الصرصار لا يستطيع أن يأكل أثناء الشتاء وألا لأنقرض أو أن به ما يسمى البيات الشتوي فهو بلا شك يخبئ في جحوره ما يمكن أن يأكل منه أو يسعى فيبحث ليحصل على غذائه الذي يحتاج إليه ولكن الكاتب يوضح هذا الأختلاف ليبرز مغزى الحكاية .فها هو الصرصار طوال الصيف يغني ويمرح فما أن يقوى البرد ويهطل المطر حتى يختبئ في جحره فلا يجد فيه طعاماً أو غذاءً فإذا أشتد عليه الجوع يخرج ويصيح بالنملة فما أن تطل عليه حتى يشكو إليها جوعه ويستأذنها أن تقرضه شيئاً من غذاءها على أن يرجعه إليها عندما يأتي الربيع ويحلو الجو ولكن النملة وهي ليست من المقرضين تسأله عما كان يفعله في الأوقات الدافئة فيجيبها في خجل أن قد كان يلهو ويمرح فتسخر منه وتحثه في سخريتها على أن يرقص حتى يستدفئ من زمهرير البرد وللنظر إلى الشاعر كيف يروي حكايته التي ينظمها في شعره ونترجمها كما هي في أصلها يقول :
كان الصرصار يغني طول الصيف
وعندما يحل الشتاء يجابه الحرمان
فلا يجد قطعة صغيرة من ذبابة أو دودة
فيذهب إلى جارته النملة
يشكو إليها مجاعته
ويستعطفها أن تقرضه
شيئاً من الحبوب يتذود بها حتى الفصل الجديد (يقصد الربيع)
فيقول لها : (بثقة الحيوان سوف أدفع لكِ قبل أغسطس مع الفائدة والأساس) (أغسطس هو وقت حصاد الحبوب والأساس هو أساس القرض)
ولكن النملة وهي ليست من المقرضين وهذا أقل الأخطاء بها تسأل ذلك المقترض :
(ماذا كنت تفعل في الأوقات الدافئة؟)
فيجيبها : في الليل والنهار حيث أذهب كنت أغني ما لم يزعجك ذلك
فتقول له : أكنت تغني ؟! يا لشدة فرحي حسناً فلترقص الآن
وهكذا الإنسان قد يجهل تقلب الزمان فينسى أحتياجه في يوم يشتد عليه فيه ولا يجد من يساعده ويسانده ويسعى إلى من ينقذه من محنته وهناك مثل شعبي مصري تقوله العامة يرتبط بهذا المضمون ويوضح أن المال ينفع في أيام الشدة وهو 🙁 القرش الأبيض ينفع في اليوم الأسود) و(القرش هو عملة معدنية مصرية قديمة) . أما مغزي الحكاية فقد بدا فيها وهذا يكفي ، ولكننا نستوحي منها مغزى غيره أو مبدأ يرتبط به ولكنه يختلف عنه في نتيجته وإن كان لا يتضح فيها وهو الذي ينتج عن بخل النملة أو بخل الإنسان – إذا أرجعناه إليه كما تهدف الحكاية – وتنصله من مساعدة قريبه أو جاره أو صديق ممن يحتاج إليه في وقت يشتد عليه فيه الزمن فإذا تغير الأمر
فجاد الزمن وتحنن على من يحتاج ، كثيرا ما يجود ويتحنن ، أتراه عندما يرى من تنصل منه لم يأبه له أم سيقول له : ( لا خير فيك الآن لأنك لم تكن إلى جانبي في وقت الشدة كما قال الشاعر الأبشيهي :
إذا لم تكن لي والزمان شورم بورم (الشورَم هو الشق والبورْم هو السأم والضيق والضجر وهما توحيان بالشقاء)
فلا خير فيك والزمان ترللي (ترللي توحي بالرقص واللهو)
ولكن الشاعر في الحكاية لم ينتقد من لا يساعد خيره فيما يحتاج إليه وإنما ينتقد ويحذر من لايأبهون بالزمن الذي يحتاجون فيه ، وإنما يهدف إلى شيء يتعلق به فنحن نرى في الحكاية نقداً أجتماعيا ولعله نقد سياسي معاً يرتبط بالفترة التي كان بها الشاعر ، وكثيرا ما يهدف إليه فيما يكتب . أما النقد الأجتماعي فهو مما لا شك فيه عندما يرمزبالصرصار والنملة إلى نمطين من الشخصيات الإنسانية فيقارن بين نمط ينظر إلى المستقبل ونمط يتمسك بالحاضر فقط ولا يراعي الغد وينتقد فيه المقصرين في الاقتصاد وهو يشفق فيه على تلك الفئة كما يلوح من أستعطاف الصرصار للنملة فلم ترضخ لأستعطافه وكأنما هو يقول أن هؤلاء لن يكون إلى جانبهم من يراعي شكواهم . أما النقد السياسي فهو يرتبط بالنقد الاجتماعي وعلاقتهما بالعصر الذي كان يحكم فيه الملك لويس الرابع عشر فرنسا وهي الفترة التي عاصرها الكاتب وأصدر فيه مؤلَّفه fables)) والذي كانت تعيش فيه فئة من الناس في بؤس وشقاء يشفق فيهما هو عليها ويرى أن تلك الفئة ما لم تقتصد فلم ترى من يشفق عليها ويكون إلى جانبها فإن لم تستطع ولم تقدر عليه فهى تستدعي الأشفاق .