بقلم: د. خالد التوزاني
إن ما يُميّز الأجواء الروحية والتعبدية في شهر رمضان هو إقبال المغاربة على أداء صلاة الجماعة بالمساجد، وخاصة صلاة التراويح، وهذا العام رمضان له خصوصية، فهو يأتي بعد سنتين متتاليتين من غياب التراويح بمساجد المملكة، بسبب جائحة كورونا، ولذلك طال اشتياق النفوس لبيت الله، فأقبلت على المساجد بلهفة وشوق كبيرين، ويظهر ذلك في الاكتضاض الكبير الذي تشهده جميع مساجد مدينة فاس، ليس في صلاة التراويح وحسب، ولكن في جميع أوقات الصلاة، وهو ما يؤكد تنامي الالتزام الديني والشعور بالرغبة في اللجوء إلى الله من أجل التوسل إليه وطلب المغفرة والرحمة، خاصة بعد وباء كورونا، الذي رفع وتيرة الإقبال على الصلاة والدعاء، فالعبادات توفر للإنسان ذلك الاطمئنان القلبي والإحساس بالأمن الروحي، وتظهر الأجواء الروحية أيضاً في المساجد بعد صلاة العصر، حيث قراءة القرآن جماعةً، إذ تبقى المساجد مفتوحة، وهذا ما يلبي الحاجة الروحية، وفي صلاة العشاء، تمتلئ المساجد عن آخرها، ويصلي جمّ غفير من الناس في الساحات المحيطة بالمساجد، وعلى الرغم من أن هذا الشهر يعرف افتتاح بعض المساجد الجديدة بفاس، ومنها مسجد عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها، الذي بني في طريق عين الشقف، في موقع متميز بجوار مسبح الجوهرة الخضراء والطريق المؤدية لغابة عين الشقف، إلا أنه مع ذلك امتلأ واضطر المصلون للصلاة في محيط المسجد، وهو المسجد الذي يتسع لألفين من المصلين، وبذلك يعد من المساجد الكبرى في فاس، لحظات قليلة قبل أذان العشاء تعرف الوفود القادمة صوب المسجد من مختلف الأعمار؛ رجالاً ونساءً وأطفالاً، ويحملون في أيديهم سجادة الصلاة، ويرتدي الغالبية منهم اللباس المغربي التقليدي المتمثل في الجلباب المغربي. إن الإقبال على التراويح شكّل مشهداً مألوفاً في فاس، وطبع الحياة الروحية بالالتزام الجماعي والانضباط التام، دون أي حاجة لتدخل أي جهة للتنظيم أو توفير الأمن، فمثل هذه الأعداد الكبيرة لا تأمن الفوضى والاضطراب، ولكن عندما يتعلقّ الأمر بالعبادة نرى الانضباط الكامل والاحترام المتبادل بين الناس وروح التضامن والتضحية والتعاون والتسامح، فالعديد يتقاسم سجادته مع غيره للصلاة، وعبارات التهنئة برمضان والابتسامة الدالة على الفرح بالصيام كل هذه الأجواء تبدو واضحة في وجوه سكان فاس، مما انعكس بشكل إيجابي على طبيعة الحياة اليومية بهذه المدينة العريقة، ودلَّ أيضاً على تعظيم المغاربة لشعائر الله انسجاماً مع الثوابت الدينية للمغرب المتمثلة في الوسطية والاعتدال والمذهب المالكي والعقيدة الأشعرية والتصوف الجنيدي، ثم إمارة المؤمنين التي ترعى هذه الثوابت، حيث نجد الملك محمد السادس نصره يقوم بإحياء سنة والده المرحوم الملك الحسن الثاني طيب الله ثراه، والمتمثلة في الدروس الحسنية الرمضانية التي يتم بثها مباشرة عبر القناة المغربية ليتابعها عموم المغاربة فيستفيدون من تلك الدروس العلمية، إلى جانب إحياء جلالة الملك حفظه الله لليلة القدر بطقوس مغربية تعكس محبة المغاربة لدينهم وتشبثهم بالسنة النبوية الشريفة.
ولذلك فإن الأجواء الروحية والتعبدية في شهر رمضان بمدينة فاس، تعكس تشبت سكان هذه المدينة بالعقيدة الإسلامية وحرصهم على العبادة وفق ثوابت الأمة المغربية، سواء في المساجد أو من خلال أعمال البرّ التي تنتعش في هذا الشهر كالصدقات وأشكال الخير والإحسان وصلة الأرحام، وهي الأجواء التي اعتاد عليها أهل فاس في العشر الأواخر من كل رمضان، ولكنها في رمضان لهذه السنة بدأت من اليوم الأول، ودلّت على تماسك المجتمع الفاسي والتزامه الديني المتين، وفي الآن نفسه اشتياقه لبيوت الرحمن بعد غياب التراويح لعامين متتاليين جراء الوباء.
تمثل صلاة التراويح بمساجد فاس، وعلى غرار سائر مساجد المملكة المغربية، مجالاً رحباً لتوفير الأمن الروحي والتعبدي، ولذلك تستعد المساجد لاستقبال شهر رمضان، بإصلاح ما يحتاج فيها إلى إصلاح وصيانة وتنظيف، بدءًا من مكبرات الصوت والإضاءة الكافية، وغسل الأفرشة والزرابي، ومروراً بصباغة بعض الجدران أو ترميمها، وانتهاءً بالعناية بمحيط المسجد، ففي صلاة التراويح تمتلئ المساجد عن آخرها ويضطر الناس للصلاة في الساحات المجاورة للمسجد، ونجد أيضاً في هذا الشهر المبارك اهتماماً كبيراً بالمساجد من لدن المجالس العلمية المحلية، التي ترسل أفضل القرّاء والمتقنين لتلاوة القرآن الكريم، من أجل إمامة المصلين في التراويح، ويتنقل الناس بين مختلف مساجد فاس للتلذذ بسماع القرآن والتماس الخشوع في بعض الأصوات أو القراءات، حيث يكتشف عُمار بيوت الله في هذا الشهر بعض القراء الذين حباهم الله بصوت جميل وأتقنوا قواعد التجويد، وخاصة أولئك القرّاء الشباب الذين شاركوا في مسابقاتٍ لحفظ وتجويد القرآن في منتديات دولية أقيمت خارج المغرب، وعادة ما ينال القراء المغاربة جوائز مرموقة في حفظ وتلاوة القرآن الكريم، ولا غرابة في ذلك، فقد اشتهر المغاربة منذ قرون مضت، وإلى اليوم، بمحبة القرآن وإكرام أهل القرآن تعظيماً لكتاب الله، فلا نجد قرية أو مدينة أو منطقة نائية، إلا وفيها “المسيد” أو الكُتّاب لتحفيظ الأطفال القرآن بطريقة اللوح الخشبي وعادات الاحتفاء بالحافظ للقرآن، وتكريمه وتقديره داخل المجتمع المغربي مستمرة إلى اليوم، حيث إن أغلب مساجد مدينة فاس، تخصص جانباً منها لتحفيظ القرآن الكريم للناشئة وذلك ضمن جمعيات لها صلة بالمسجد والمجلس العلمي المحلي، وهو ما يُظهر ذلك الاحترام الكبير الذي يكنه سكان مدينة فاس لحامل كتاب الله في صدره، على غرار عموم المغاربة، ولذلك في صلاة التراويح عادة ما يقوم المصلون بجمع التبرعات بسخاء لهؤلاء القرّاء الذين يؤمّون الناس في التراويح، تعبيراً عن الشكر والامتنان.
وتشكل التراويح في مدينة فاس مناسبة سنوية لإشباع الجانب الروحي وتلبية الحاجة لسماع القرآن مباشرة من أفواه أشهر القرّاء المغاربة، ولذلك يتسابق المصلون على الصفوف الأمامية، ويتوافدون على المسجد قبل موعد صلاة العشاء بوقت طويل، وهو الوقت الذي يستفيد منه المصلون أيضاً في الإنصات لدروس الوعظ والإرشاد في بعض المساجد بمدينة فاس، وهي الدروس التي يلقيها علماء أجلاء من المجلس العلمي، وهكذا تتحول صلاة التراويح إلى زاد روحي وتعبدي يجمع بين أداء فريضة الصلاة وسنة قيام الليل وفريضة طلب العلم بالإنصات للدروس، فضلاً عن الاجتماع بين الناس ونسج الصلات الإنسانية ولقاء الجيران وتجديد الصداقات، ولذلك يوجه العلماء المغاربة عناية الناس إلى أن الصلاة ينبغي أن تكون في مسجد الحي، من أجل الحفاظ على تماسك سكان الحي، وتعارفهم وتواصلهم، خلافاً للبعض الذين يفضلون التنقل إلى المساجد البعيدة، فوظيفة صلاة التراويح تتعدى الأبعاد الروحية والتعبدية إلى أبعاد أخرى اجتماعية وإنسانية وتواصلية، لها آثار محمودة في تقوية أواصر التعارف والمحبة بين سكان الحي.
هناك علاقة وثيقة بين الأجواء الروحانية التي نراها تنتعش في شهر رمضان، وبين العادات والتقاليد المغربية الموروثة، فالمغاربة أغلب عاداتهم مرتبطة بالبعد الديني، حتى في الأعمال الدنيوية كالتجارة والفلاحة والصناعة، وغيرها من مجالات العمل المادي، نلحظ الأثر الروحاني في بعض مراحل إنجاز العمل، مثل الصلاة على الرسول صلى الله عليه وسلم عند مباشرة العمل الشاق أو الانتهاء من عمل ما، ومثل التسبيح والتهليل والتكبير والتحميد، وغير ذلك من الأذكار التي تمثل عادةً وتقليداً لدى عموم المغاربة، ويزيدها شهر رمضان توهجاً، فالأجواء الروحانية في هذا الشهر يمتد أثرها في سائر الشهور وفي كل مجالات الحركة والإنتاج، ونجد العديد من المغاربة يفضلون التفرّغ في شهر رمضان للعبادة، فيكون بمثابة عطلتهم السنوية، والبعض الآخر ممن له الإمكانات المادية يسافر إلى الديار السعودية لأداء العمرة في شهر رمضان أو العشر الأواخر منه، ومن تعذر عليه التفرّغ أو السفر للعمرة، فهو يجد ملاذاً في صلاة التراويح يواظب على أدائها في المساجد، متنقلاً بين قارئ وقارئ، يرتقي في مقامات القرب من الله، عبر بوابة القرآن الكريم إنصاتاً وترتيلاً، ثم ذٍكراً لله وفرحاً بليلة الختم وبالدعاء، إنها أجواء روحانية فريدة ترتبط بشهر رمضان وتتقاطع مع عادات عريقة عند المغاربة، بل يمتد حضور هذه الأجواء بعد رمضان، في بقية الشهور، من خلال إحياء ليالي الفرح بازدياد مولود أو نجاح أو ترقية أو عمل جديد أو فرح بقدوم غائب.. أو غير ذلك من المناسبات التي تشكّل فرصة لاستدعاء البعد الروحي عبر السماع الصوفي أو المديح النبوي أو عبر موعظة دينية ترقّق القلوب، أو عبر قراءة جماعية للقرآن الكريم ثم الدعاء، وغير ذلك من التقاليد المغربية الأصيلة، والتي تشكّل هوية دينية ونفسية للمغاربة، مهما اختلفت مستوياتهم الاجتماعية والاقتصادية، على الرغم من بروزها بشكل أوضح عند الفئات الميسورة، بحكم القدرة على إطعام الطعام وإكرام أهل القرآن، ولا شك أن هذه العادات قد مثّلت وجهاً مشرقاً في الثقافة المغربية، لأنها تؤسس للتماسك الاجتماعي وتحافظ على قيم التضامن والتآخي، وإحياء روابط الأخوة الدينية، وتأكيد صلات القرابة وتعظيم الدين والأخلاق، وهي الأبعاد الروحانية التي تنتعش في شهر رمضان أيضاً، مما يجعل المغاربة يتمنون أن تكون السنة كاملة رمضان، لما يرونه من بركات هذا الشهر سارية في المعاملات والسلوك، حيث الرحمة والعطف والمودة والإخاء التي تشيع في المجتمع المغربي بسبب هذه الأجواء وامتدادها في العادات الموروثة.
ومن العادات أيضاً أن يقلع الكثيرون عن بعض العادات السيئة مثل التدخين، وتجنب اللغو والجدال والخصام وشهادة الزور، وذلك بالتزام ذكر الله وملأ الأوقات بقراءة القرآن، أو ممارسة المشي فراراً من مجالس الغيبة والنميمة، ولذلك من عادة المغاربة إغلاق العديد من المحلات التجارية في نهار رمضان، كالمقاهي والمطاعم، والتي لا تفتح إلا بعد صلاة التراويح، وأيضاً إغلاق الملاهي الليلية وخاصة محلات بيع الخمور وذلك قبل رمضان بمدة، على الرغم من أن تلك المحلات في الأصل مخصّصة لغير المسلمين من الجاليات المقيمة في المغرب، إلا أنها مع ذلك تُغلق تعظيماً للصيام، وتعبيراً عن التسامح الذي يميّز المجتمع المغربي والتعايش بين مختلف فئاته وأطيافه، علماً أن بعض أتباع الديانات الأخرى في المغرب تُشارك عموم المغاربة صيام رمضان، تعبيراً عن روح الأخوة والصداقة التي تجمعهم بالمغاربة المسلمين، والبعض الآخر من أتباع تلك الديانات يتجنب الأكل في رمضان أمام الناس احتراماً لحرمة هذا الشهر، فهذه العادات المغربية الموروثة، تؤكد ذلك التعايش الديني الذي يميّز المجتمع المغربي ويؤكد انسجام مكوناته وكأنها لحمة واحدة، وهو ما نلمسه أيضاً في مؤسسة إمارة المؤمنين التي ترعى شؤون كل المؤمنين مسلمين وغير مسلمين، وهذه القيم والعادات المغربية هي التي جعلت المغرب رائداً في الدبلوماسية الروحية وفي تدبير الشأن الديني بمنهج وسطي ومعتدل منسجم مع تعاليم القرآن والسنة النبوية وخادم لمقاصد الشريعة الإسلامية السمحة. حيث يُجسّد شهر رمضان هذه القيم والعادات، ويقويها بشكل واضح في سائر مظاهر الحياة اليومية للمغاربة.