بقلم: محمد منسي قنديل
فلنسافر إلى مصر..
هكذا قررت الاختان في صوت واحد تقريبا، كانتا في حاجة إلى كثير من الضوء والدفء، بعيدا عن “كليبرشان” البلدة الاسكتلندية المعتمة التي تضم بيتهما وقبر ابيهما، كانت التوأم انجيس وشقيقتها مرجريت يعيشان في ظل ابيهما المحامي الثري جون سميث، وكان بينهما وبين ابيهما اتفاق، كل لغة جديدة يتعلمانها يأخذهما للسفر لموطنها ، تعلمتا الفرنسية فأخذهما إلى فرنسا، ثم إلى اسبانيا ثم إلى إيطاليا، لكنه مات فجأة بعد أن قد زرع فيهما حب السفر واكتشاف الأماكن، الغريبة.
“انجيس” الاخت الكبرى هي التي طرحت فكرة السفر لمصر، كانت قد هبطت للعالم قبل اختها بعشر دقائق تقريبا، وكان حسها الديني عاليا، كانت اكثر ارتباطا بالكنيسة وقصص الكتاب المقدس، وتريد أن ترى الأرض التي وقعت فيه احداث هذا الكتاب، لم تكن هناك معلومات مؤكدة عن ذلك البلد غير أن النيل يجري فيها، وينحكم فيه حاكم تركي متفتح بعض الشيء اسمه الخديوي إسماعيل، وهو ملئ بالأماكن الغريبة التي تستحق الزيارة، ولكن كانت هناك اخبار أخرى، مشروع قناة السويس قد اوشك على الانتهاء، ستتصل مياه البحر الأبيض بالأحمر وسيختصر طريق إنجلترا إلى الهند لنصف الوقت، وكانت إنجلترا قد تنبأت بفشل المشروع، معتقدة أن الارض سوف تنشق وتغوص مياهها في الاخاديد العميقة أو أن جوانبها ستنهار وتغرق كل ما يمر بها من سفن، ولكن مرت عشرة أعوام عمر المشروع وتواصل الحفر ولم تحدث الكارثة المنتظرة.
في ديسمبر 1869وصل الاثنتان إلى الإسكندرية ومنها إلى القاهرة، وامسكت “مرجريت” انفها وهي تهتف: يا إلهي، هذه المدينة لها رائحة غريبة جدا، ولكن انطباع “انجيس” كان مختلفا، فرغم أن الإسلام قد دخل مصر منذ أكثر من الف عام إلا أنها رأت فيها المدينة التي وصفها الكتاب المقدس، تخيلت أنها ستصادف سيدنا يوسف وهو يتجول وسط الازقة الضيقة ويفسر الاحلام للعامة، او سيدنا إبراهيم ومعه زوجته راشيل وهما متجهان لمقابلة الفرعون، أو تسمع صوت النبي موسي وهو يقنع قومه ليعبر بهم البحر لصحراء سيناء، وحين رأت واحدا يقود حماره تخيلت أنه يحمل السيدة مريم وعلى ذراعها الطفل يسوع وهما هاربين من عسف الملك هيرودس، وعندما جلست في فندق شبرد وامتدت امامها النيل وهو ينساب تخيلت أنها سوف ترى السلة التي وضعت فيها أم موسى طفلها وتركتها تسبح مع الموج.
كان النيل مزدحما بالسفن التي ترحل جنوبا حتى الشلال الأول عند اسوان، وكان عليهما أن تقوما بهذه الرحلة، تشعران أنها رحلة العمر التي ستجعلهما كامل ارض التوراة القديمة، واقترح عليهما بعض نزلاء الفندق من الاوربيين فكرة استئجار “ذهبية”، سفينة صغيرة تسبح على النيل وتتوقف عندما تشاءان، كانتا غريبتين في بلد غريب، وكان لابد من البحث عن “ترجمان” محترف يدبر لهما تفاصيل الرحلة، وفي شرفة الفندق ظهر لهما المستر “كيرتيزا”، واحد رعايا جزيرة مالطا وعيش في القاهرة، أمر مألوف في بلد يعج بالأجانب، كان يجيد العربية والانجليزية والفرنسية، واستطاع أن يستولى عليهما في لمحة واحدة، وقبل أن يتناقش في شيء أو يكتب أي عقد كان يقودهما عبر الازقة الضيقة لزيارة المساجد العتيقة والكنائس المليئة بالأيقونات والمعبد اليهودية العتيقة، دخل بهما فجأة إلى عمق التاريخ الحي، خلف ضجيج الشارع والقمامة المتناثرة اسمعهما صوت الآذان وصليل الأجراس ودوي المزامير في دفعة واحدة، غاص بهما في عالم من الجمال المختبئ تحت ركام الزمن، واستطاع أن يستأجر “الدهبية” وطاقم البحارة الذي سيعمل فيها بما فيه “ الريس” الذي سيقود الجميع، وقبل موعد الرحيل اطلق فيها ثلاث من القطط حتى تصطاد االفئران المختبئة بين الاخشاب.
أصبحت “الدهبية” جاهزة للرحيل. ولأن أعياد الكريسماس كانت قريبة فقد زين السفينة بالورود وسعف التخيل وجعلها تبدو كعروس، وبدأت الرحلة هادئة على صفحة النيل، تغير وجه مصر فجأة كأنهما رحلتا إلى عالم آخر، بلد افريقي قديم، يقتات على نهر وحيد ولا يكف عن مقاومة التصحر والجفاف، القصة الابدية لأكثر الناس مشقة، وبعد عدة أيام من الرحيل بدأ مظهر الآنستان في التغير، لم تلوح الشمس وجوههن فقط ولكن بدلت ألوان ثيابهن ايضا، كانت النسوة في القرى التي يمررن بها هن اللاتي يقمن بغسل هذه الثياب ، ومن النادر أن يستخدمن الصابون، حتى أصبحت كلها مائلة للون البني، ولكن هذا لم يكن ليمنعهن من التمتع بصفاء النيل، والشطآن الخضراء التي لا يقطعها سوى كثبان الرمال، كان مياهه تنساب من بين أصابع الآلهة كما قال عنه هيرودوت لذلك يستحم فيه المصريون مرتين في الصباح وفي المساء، وعندما وصلت الذهبية للجنوب، وبدأت المعابد الفرعونية تظهر من غير توقع، واستقبلتهما طيبة القديمة بسعف النخيل وزهور اللوتس.
لكن ذروة الرحلة كانت عبور الشلال الأول عند اسوان، لم يكن كيرتيزا راغبا في المضي ابعد من ذلك ولكن الاختان اصرتا على اجتياز الشلال والدخول في بلاد النوبة، كان ولي عهد اجلترا قد سبقهما لهذه الرحلة، جاء إلى مصر بحجة السياحة ولكن السبب الحقيقي كان معرفة إلى اين وصل مشروع قناة السويس، ولكن السفن كانت مكدسة بالفعل في النيل، ولا تستطيع العبور، كانت هناك سفينة أخرى ضخمة غائصة في الطين وسط جلاميد الصخور، واخذ كيرتيزا يصيح بهما أن سفينتهما سوف تتحطم مثلها تماما أذا أصرتا على المجازفة، واستمر زحام السفن العاطلة لمدة ثلاثة أيام حتى ظهر ضابطان من جيش الخديوي، واحضرا خمسين رجلا من النوبيين الأشداء، وقفت الاختان مبهورتين تتأملان اجسادهم السوداء اللامعة وهم يحيطون السفينة المغروسة بالحبال ثم يبدؤون في جذبها وهم لا يكفون عن الغناء “ يامهون .. هونها علينا”.
انزلقت الذهبية أخيرا إلى بلاد النوبة، ارض “كوش” القديمة كما ذكرتها التوراة، وسط جلاميد الصخر المحفور عليها اسرار الحياة، الصخور نفسها التي رآها نبي الله موسى في طفولته، وبعد أسبوع من الإبحار وصلتا إلى نهاية مصر الفرعونية عندما شاهدتا معبد أبوسمبل الغارق في الرمال لا تبدو منه غير الجزء العلوي للملك رمسيس الثاني وزوجته نفرتاري جميلة الجميلات، وشاهدا بعض نساء من قبائل النوبة، عاريات تماما، وتساءلت أنجس الاخت الكبرى: هل شاهد ولي عهد انجلترا كل هذه الاثداء؟.











