بقلم: محمد منسي قنديل
هذا الزحام ..لا أحد، ليس هذا بيتا من الشعر فقط ، لكنه جملة اعتراضية، يقولها عبد المعطي حجازي في مواجهة زحام المدينة، يرفض أن يراه لأنه يجسد احساسه بالوحدة، ويدفع داخله الخوف من الاندماج وسط هذا الحشد من البشر، من فقدان الهوية ووهن الشخصية، الأمر الذي اصبحنا نعاني منه جميعا، لقد تخطينا مرحلة الزحام الى مرحلة الالتصاق، وكل ما يقال عن ضرورة التباعد الاجتماعي ومحاولة اتقاء خطر الوباء لن يجدي شيئا، فنحن نعيش على رقعة ضيقة جدا من الارض، فالمساحة المأهولة في مصر والتي يعيش عليها أكثر من مائة مليون مصري هي المساحة نفسها التي يعيش عليها اربعة مليون لبناني، رقعة صغيرة من الارض ثابتة منذ آلاف السنين مقتطعة بالعافية من جفاف الصحراء، حدود ثابته كالقدر، لاتتوسع ولايضاف لها حبة رمل واحدة ، وحتى عندما اضيفت إليها كيانات اخرى في ظروف سياسية، مثل السودان وغزة، سرعان ما انفصلت عنها، بل وظهر لنا عدو جديد طامع في اقتطاع جزء من ارضها، لقد التصقنا بشاطئ النيل الضيق على مدى آلاف السنين، اقمنا حضارة ثقيلة راسخة، اوابد حجرية واهرامات وومسلات واعمدة للمعابد ونظام قاتم للعبادة وآخر صارم لوراثة العرش، بينما صنع جيراننا الاقربون من أهل فينقيا حضارة خفيفة لا تعتمد على الارض ولكن على الاطواف، تنطلق راكبة الامواج حتى حافة الافق، لا تتوقف إلا لتقيم مستعمرات لا تبقى طويلا، لانهم لايقيمون طويلا، منشغلين دوما بمواصلة اكتشاف العالم، للوصول للطرف الآخر من المحيط، بينما بقينا نحن على حافة النهر، وسط خلافات لا تنتهي بين الذين يتصارعون من اجل اقتطاع الجزء الاكبر من الارض، وبسبب هذه الخلافات ظهرت اول حكومة في التاريخ، تنازل المصريون منذ وقت مبكر عن جزء من حريتهم وجزء آخر من ثمرة رزقهم لمن يقوم بحمايتهم وينظم العلاقة بينهم، الامر الذي يطلق عليه علماء الفكر السياسي “العبودبة الطوعية”، بإرادتنا ورغبتنا اصبحنا اقدم عبيد على وجه الارض، توارثنا صفات من الاستخذاء حفرت شفرتها داخل الجينات، حملتها صفاتنا الوراثية ونقلتها من جيل لآخر، الامر الذي كان يكرهه جمال حمدان، ويقلل من شخصيتنا في نظره، فقد تولد عن التصاقنا بالحافة الطينية للوادي حضارة غريبة، ليست لنا ولكن من اجل مجد الفراعين الذين يحكموننا، بنينا لهم القصور الفاخرة وسكنا بيوتا من طين، اقمنا لهم الاهرامات الفارهة وتركنا النهر بلاجسور أو ضفاف تحمينا من غدر مياهة وقت الفيضان، بالغنا في تأليه الفراعنة وخلدنا انتصارتهم على المسلات، ووارينا موتانا في حفر بلا شواهد، كانت هذه الحضارة قربانا للملوك، بينما الكتلة المتلاصقة للشعب المصري غائية بلا ملامح، وبالغ الفراعنة في عزلتهم وحرصوا على الزواج من اخواتهم حتى لا يتسرب الدم الملكي خارجا، كان علينا منذ زمن مبكر أن ننطلق في فضاء الصحراء التي تحيط بنا، يومها لم يكن ينازعنا أحد في مياه النيل، وكانت الصحراء مهيأة ومشتاقة لأي غزو من اهلها، لقد انفقنا عشرين عاما في بناء هرم ضخم لافائدة منه، ومن المؤكد أن نقل احجاره الصلدة كانت من اشق الاعمال وكان الاسهل بالتأكيد ان نحفر ترعة تشق الصحراء وتوسع من مساحة ارضنا المأهولة، لم تكن مصر بالبلد الغنية في يوم من الايام، لايمكن القول أن غلة الوادي كانت تكفي الجميع، من المؤكد أنه كان هناك فقر واملاق، وكان التلاصق هو السب في كل الاخطاء التي وقعنا فيها، وهي السبب ايضا في اختراق الغزاة عبر التاريخ لبلادنا، لأنه كان من السهل الاستيلاء على هذه الكتلة المتلاصقة بعد ان يتخلى عنها الذين يقومون بحمايتها، علينا ان نحل هذا التلاصق المميت، ان نقتحم الصحراء حتى نجد مساحة للتنفس، حتى ننجو من الوباء ونكف عن تكرار الاخطاء القديمة.