بقلم: د. حسين عبد البصير
ومن بين الأعمال الأدبية المميزة، التي توضح عظمة مصر ودعوتها الخالدة للتمسك بالعدل والحق وإنقاذ المظلوم مهما كانت مكانة الظالم، ما نعرفه بـ «شكاوى القروي الفصيح». وتعد «شكاوى الفلاح الفصيح» من عيون الأدب المصري القديم. وهي قصة مصرية قديمة عن قدوم فلاح مصري قديم يدعى «خو إن-إنبو» من منطقة وادي النطرون إلى منطقة إهناسيا في بني سويف مصر الوسطى. وعاش في عهد الأسرة التاسعة أو العاشرة ما يعرف بالعصر الإهناسي. وقد تعرض «خو إن-إنبو» لاعتداء من قبل نبيل يدعى «رنسي بن مرو». وتبدأ القصة بتعثر الفلاح «خو إن-إنبو»وحماره في أراضي النبيل «رنسي بن مرو»، فاتهمه المشرف على الأرض «نمتي نخت» بإتلاف الزرع الخاص بهذه الأرض، وبأن حماره أكل من زرع النبيل، فأخذ الحمار واعتدى على «خو إن-إنبو». وذهب «خو إن-إنبو» إلى النبيل «رنسي بن مرو» بالقرب من ضفة النهر في المدينة، وأثنى عليه، وبث له شكواه، فطالبه النبيل بأن يحضر شهودًا على صحة كلامه. إلا أن «خو إن-إنبو» لم يتمكن من ذلك، غير أن النبيل أعجب بفصاحة الفلاح، وعرض الأمر على الحاكم وأخبره عن بلاغة الفلاح، فأعجب الحاكم بالخطاب، وأمره بأن يقدم عريضة مكتوبة بشكواه. وظل «خو إن-إنبو» يكتب تسع شكاوى لتسعة أيام متواصلة يتوسل لتطبيق العدالة. وبعد أن استشعر التجاهل من قبل النبيل، أهان «خو إن-إنبو» النبيل، فعوقب بالضرب. فرحل الفلاح المحبط، غير أن النبيل أرسل إليه من يأمره بالعودة، وبدل من أن يعاقبه على وقاحته، أنصفه وأمر برد الحمار للفلاح وإعجابًا منه بفصاحته، عينه مشرفًا على أراضيه بدلاً من المشرف الظالم، «نمتي نخت» وأعطاه ممتلكات المشرف الظالم «نمتي نخت».
والحقيقة إن هناك عمل أدبي يُطلق عليه «اليائس من الحياة». وهو من النصوص الأدبية الجميلة والمهمة التي جاءت لنا من مصر القديمة. وهو عبارة عن حوار أدبي ذي مغزى فكري وديني وسياسي بين اليائس من الحياة وروحه. ولهذا الحوار صفة النزاع الكلامي والجدل الفكري بين الذات المتمثلة في الفرد الذي يأس من حياته نظرًا لانتشار الظلم والفساد في العالم وبين الروح التي تسعى لإقناع الذات للإقدام على الانتحار كي تتخلص من مساوئ هذا العالم المليء بالأزمات والفوضى.
وكان الواقع الاجتماعي الذي كان يعيش فيه ذلك الرجل ظالمًا حيث ساءت أحوال البلاد والعباد الاقتصادية والاجتماعية والسياسية. وانتشر الشر والفساد في كل مكان ولم تعد لقيم الخير مكان عند الناس فقد قل الأمن والأمان والوفاء لدرجة أنه لم يعد للإنسان من صديق أو أخ أو جار يتحدث إليه فالإخوة والأصدقاء أصبحوا أعداء لبعضهم. وغدت الثروة والنفوذ بيد الفاسدين الأشرار؛ لذلك فقد أراد ذلك الرجل أن يتخلص من حياته بحرق نفسه، لكن روحه عارضته وهددته بأنها ستهجره في العالم الآخر. ولكنه أيضًا ومن خلال حواره مع روحه كان حريصًا على إرضائها وبقائها معه فأخذ يحاورها، وتحاوره وأخذت تخيره ما بين الرضا بالواقع والحياة معًا، أو الرضا بالموت والإقدام عليه. وكفت عن الحديث وامتنعت عن مناقشته. ولكن ما لبثت حتى عاود التفكير فيما دعته إليه واعتزم أن ينتقل وإياها إلى عالم الآخرة. وبدأ يستدرجها في الحديث أملاً في أن تشجعه وتساعده في اتخاذ قرار محدد. وأشهد عليها جمعًا تخيله من الناس. وتصنعت الروح الغضب مرة أخرى. وأجابته وهي تؤنبه: «الست رجلاً يافعًا عشت الحياة من قبل، فماذا حققت؟». ثم قصت له قصة رجل فقد زوجته وأولاد نتيجة إعصار ألقى بهم في بحيرة تعج بالتماسيح في سواد الليل. وهدفت الروح، من رواية هذه القصة وأخرى تلتها، أن تقنع صاحبها بأنه إذا تأمل الآخرين هانت عليه بلواه. لكنه دخل معها في جدل آخر عن قيمة الحياة التي تدعوه إلى الرضا بها بعد أن فقد فيها الكرامة والثقة والأمل في الناس ونظم إجابته من خلال أربع قصائد نثرية.
وتحدث عن الموت الذي فيه خلاصه من مأساته. وأكد على إيمانه بالحياة بعد الموت وإيمانه بالثواب والعقاب وعدل الأرباب فيها. وقال لها: «وها هو الحق.. الحق من وصل للعالم الآخر سيكون معبودًا يحيا به فيرد الشر على من أتاه. وها هو الحق من وصل هناك سيكون عالمًا بالأسرار وكل بواطن الأمور».
وهكذا انتهت البردية البليغة. فكانت أبلغ من هذا. وكان هذا اليائس يعيش في صراعه مع روحه. ومن تلك البرية يتضح أن الأسلوب السردي أو السياق والنظام العام الذي استطاع من خلاله القاص المصري القديم رسم ووضع العناصر الرئيسية للقصة، خاصة الزمان والمكان وحركة الأشخاص، مما ساعد على الحبكة الدرامية مما تحمله من تنوع في الأحداث والمواقف داخل الإطار القصصي، وحافظ على حيوية وتدفق وتتابع الحكاية.
هذه هي مصر القديمة التي علمت العالم الضمير والوعي والأخلاق والحق والعدل والخير والجمال. وهذه هي مصر الفرعونية المبهرة بثرائها الأدبي والفكري والقانوني الذي علّم الحضارات وألهم الإنسانية.
الهوية الفردية في مصر الفرعونية
سبقت مصر القديمة العالم كله بإبداع أدب وفن السير الذاتية!
وكانت السير الذاتية في مصر الفرعونية مهمة للغاية. وكان يتم التعبير عن مفهوم الهوية الفردية أو الذات المصرية القديمة في مصر الفرعونية بشكل متنوع حسب العصر. وكانت الذات مهمة للغاية في المجتمع المصري القديم، وتم التعبير عنها من خلال الوسائل النصية والمادية، وكانت جزءًا مؤثرًا وفاعلاً في الثقافة المصرية العليا.
وتم «تمثيل الذات» في السير الذاتية والتماثيل التي تركها النبلاء في مصر الفرعونية. وكان تمثيل الذات عنصرًا قديمًا وحاسمًا للثقافة العليا في مصر القديمة. وقدم النبلاء أنفسهم من خلال اللغة والفن والآثار. وكان الشيء اللافت هو كيف ولماذا عبر النبلاء عن أنفسهم بهذه الطريقة، وكيف عبروا عن دورهم في تاريخ الفترة وكيف كانت علاقاتهم مع الملك. إن الفهم الأعمق لدوافع النبلاء من خلال تصويرهم في هذه الأعمال الأدبية والفنية يمكن أن يوضح لنا العديد من المعلومات عن السياسة والتغيرات المختلفة في المجتمع المصري القديم في تلك الفترة.
إن نقطة البداية التي يجب التأكيد عليها هي أنه كان يمكن التعبير عن «الذات» في مصر القديمة نصيًا وفنيًا وذلك لأعضاء المجتمع الآخرين من خلال وسائل الفنية البصرية والقولية الأدبية التي كانت أدوات مهمة تظهر الفرد يتفاعل مع الآخرين، والآلهة، والمجتمع. والشيء الأهم هو كيف ولماذا قدم النبيل المصري القديم نفسه في الفن والأدب، وكذلك كيف تم تفسير هذا التقديم في سياقات أثرية مختلفة. ويمكن تطبيق هذا المنهج على مجموعة واسعة من السير الذاتية ذات الموضوعات المتنوعة في مناطق جغرافية مختلفة وفترات زمنية عديدة.
ويفضل استخدام منهج دراسي شامل متعدد التخصصات لهذا الموضوع الذي كان الوسيلة المثلى التي من خلالها يمكن دراسة التعبيرات المصرية القديمة عن الذات الفرعونية؛ كي يمكننا توضيح عدة جوانب مختلفة من نصوص نبلاء العصر وآثارهم، وتقديم مجموعة متنوعة من الاستفسارات، بما في ذلك القضايا الفلسفية والتاريخية والأثرية، والمفاهيم الفنية واللغوية والأدبية، والقيم الدينية والأخلاقية، وسمات تمثيل الذات. ويمكن للمعالجة الفلسفية أن تلقي الضوء على الجوانب الرئيسية لهذه النصوص الأدبية والأعمال الفنية، مثل ترجمة نصوص السير الذاتية وغيرها، فضلاً عن السمات المعجمية واللغوية الخاصة بها.
ومن خلال دراسة الجوانب الأساسية لهذه النصوص والقطع الأثرية يمكن أن نستكشف عدة عناصر مشكِّلة وموجودة في تلك النصوص مثل التاريخ، والتاريخ وقضايا الذاكرة الثقافية، ودور الفرد (سواء داخل مجتمعه أو مستقلاً بذاته)، والعلاقة بين الفرد والآلهة. واختلف التعبير عن الذات. ويمكننا التركيز في هذه الأعمال الأدبية والفنية التركيز على معاني «الذات» في السير الذاتية للنبلاء الذين تختلف سيرهم في المضمون، والفترة الزمنية، والمهنة، والخلفية الاجتماعية، وكشف الصلات الوثيقة بين آثار أولئك النبلاء وهويتهم وأيديولوجية العصر.
وفي نهاية المطاف، أؤكد أنه من خلال هذا المجال الجديد في علم المصريات، وهو دراسة «تمثيل الذات الفرعونية»، يمكن إجراء استكشافات تقوم على تحليلات متعددة التخصصات والمقارنات بين ثقافات متنوعة في الأدب والفن وعلم الآثار والتاريخ. إن دراسة النبلاء من الناحيتين النصية والبصرية يمكن أن تسهل تحليل ظهور «الذات» ومفهوم «الفردية» كظاهرة تاريخية مهمة في مصر القديمة. ولا تقتصر الممارسات الثقافية والسياسية لمجموعة أولئك النبلاء على تمثيل السلطة والعلاقة بين النبلاء والملك التي تظل المفتوحة للتفسير. ويمكن من خلال هذه التحليلات الوقوف على قوة نصوص السير الذاتية وجمال التمثيل البصري لها، وتوضيح قدرتها في التعبير عن التاريخ في ثناياها. ويمثل الفن ونصوص السير الذاتية والثقافة المادية المكونات الرئيسية التي تبلور تمثيل الذات النبلاء في مصر القديمة. وبالتالي فإن فهمنا المتطور لتمثيل الذات يمكن أن يؤدي إلى إجراء دراسات مماثلة عن الثقافات والفترات الأخرى في العالم القديم.