بقلم: شريف رفعت
جلس ساهما في حفل توقيع روايته الجديدة، تأمل الحضور، عددهم قليل، لم يكن يتوقع حضورا كبيرا لكن العدد الذي حضر أقل حتى مما توقع، بضع و عشرون شخصا معظمهم أصدقائه و أقاربه حضروا مجاملة له، الناشر يتحرك في المكان بخفة و نشاط محاولا أن يضفي حيوية على الأمسية، انتابه شعور بالملل تمنى أن يغادر المكان، بعد المقدمة المليئة بالمجاملات التي ألقاها الناشر جاء دوره لقراءة فقرات من الكتاب، حاول أن يضيف شيئا من العمق على الجلسة باختياره لفقرات فيها رمزية و دعوة للتفكير، جاءت بعد ذلك أسئلة الحضور، نفس الأسئلة المكررة عن بداية اشتغاله بالأدب، و عن النصائح التي يوجهها للكتاب الناشئين، أخيرا جاء سؤال من شابة تبدو مثقفة و من المهتمين بالأدب سألته عن الجديد في روايته الأخيرة هذه، أجاب بعد أن أثنى على ذكاء السؤال:
ـ أحاول أن أقدم مدرسة ما بعد الحداثة للقارئ العربي بأسلوب سهل نسبيا و مفهوم.
نظر في وجوه الحاضرين و تأكد له أن أحدا منهم لم يفهم ما قال حتى موجهة السؤال نفسها.
عدد الكتب التي بيعت في الحفل أقل من متواضع، جلس متثاقلا يوقع نسخ الكتاب المباعة و يتحدث بأدب مع المشترين ويكتب إهداءات معادة يحاول أن يضفي بعض الحميمية عليها.
انقضت حفل التوقيع، لاحظ أن الفتاة التي سألت السؤال الذكي مازالت موجودة تساعد في تنظيم مكان الحفل قبل تركه، أدرك أنها من العاملين في مكتب الناشر، بالتأكيد طُلِبَ منها أن تلقي سؤالها كي يضفي عمقا على الحوار، سأل الناشر قبل انصرافه:
ـ ما رأيك؟
أجاب بحماسه المعتاد الذي أصبح مملا:
ـ حفل ناجح جدا، كنت أتمنى أن يكون هناك عدد أكبر من الحضور، لكن من حضر انصرف مسرورا، ثم إن الحوار الذي دار بينك و بين الجمهور كان مثمرا و عميقا.
انصرف و هو يشعر بالقنوط.
@ @ @ @ @
جلس في منزله ساهما، سألته زوجته عن السبب، أجابها:
ـ أحاول تقييم تجربتي الأدبية، بالتأكيد من الناحية التجارية هي متواضعة للغاية فكتبي لا تباع.
ـ العديد من النقاد يشيد بكتاباتك، بالتأكيد و بدون مجاملة أنت موهوب، قد يكون العيب من الناشر الذي لا يبذل المجهود الكافي لتوزيع الكتاب و الدعاية له، أو هو المزاج العام للقراء هذه الأيام و الذي لا يستسيغ الأعمال الجادة.
ـ انظري إلى من يبيع الآن في الساحة الأدبية، مجموعة من الشباب أغلب كتاباتهم ضحلة و سخيفة و بعضها يتسم بالعهر.
أجابت مداعبة:
ـ أنا متأكدة أنك إذا أحببت سيكون عندك من العهر ما يكفي لملأ مكتبات.
ببطء و بالتدريج تسللت الفكرة إلى وعيه القانط، ماذا عن كتابة ما يعجب القراء بغض النظر عما إذا كان له قيمة أدبية أم لا، بغض النظر عما إذا كان هو نفسه معجبا و مقتنعا به أم لا.
فعلا بدأ الكتابة، استغل حرفيته و أسلوبه السهل الممتع، أحداث الرواية بها الكثير من الإثارة و الرومانسية و المواقف الجنسية التي تتعدى بجرأة على حدود المقبول. عندما تمت رواية “مغامرات جسد” لم يمتلك الشجاعة لتقديم العمل للناشر باسمه هو، فكر فيما يروج للكتاب تجاريا، حسنا ستكون مؤلفة شابة جديدة على الساحة الأدبية، وضع اسم “شيرين فكري” على العمل و أخذه للناشر. قدمه له قائلا:
ـ أعرف الكاتبة، إنها شابة واعدة، بالإضافة لكونها حسناء، لقد قرأت العمل و أعجبني، إنه جرئ بعض الشيء، اقرأه أنت و اخبرني برأيك، هل يصلح للنشر؟
بعدها بعدة أيام طلب الناشر مقابلته، قال له أن الرواية فعلا جريئة لكنه سيغامر بنشرها، و طلب مقابلة الكاتبة، أجابه بحذر:
ـ لن يمكن ذلك نتيجة طبيعة الرواية و لأن شيرين من عائلة تقليدية محافظة، لكنها فوضتني لتمثيلها في هذا الموضوع.
نظر له الناشر بشـَك ثم ابتسم و قال:
ـ أفهم ذلك تماما، معنى هذا أن شيرين فكري ليس اسمها الحقيقي، فلندع موضوع لقائي بها لوقت لاحق، لكن عندي طلب منك شرطا للنشر، أن تكتب أنت مقدمة الكتاب.
صمت برهة، كان يرغب في ألا يرتبط الكتاب باسمه بأي شكل، لكنه قبل على أمل أن تزيد مقدمة بقلمه من رواج الكتاب.
و فعلا في نفس اليوم كتب مقدمة عن الرواية التي وصفها بأنها مثال على أدب الشباب و جرأته في تناول المواضيع الاجتماعية التي يخجل منها مجتمعنا و يتجنب الخوض فيها. أضاف من عنده و كأنه يستعذب المغامرة و كأن السير في هذا الطريق المجنون يستهويه و يستحوذ عليه، أضاف أنه يعرف الكاتبة شخصيا و يحيي فيها موهبتها و جرأتها و اللتان لا ينافسهما سوى جمالها.
نجحت الرواية تجاريا، تحدث عنها النقاد بعضهم بالمديح المتحفظ و آخرين بالنقد القاسي، هاجمها الاسلاميون و لعنوا مؤلفتها و من كتب المقدمة و دار النشر التي نشرتها و كل المكتبات التي تبيعها و كل من يشتريها. كان ذلك خير دعاية للرواية و التي زادت مبيعاتها باضطراد كلما زادت الضجة حولها، صدرت عدة طبعات من الرواية، العائد المادي من مبيعات الرواية على شيرين فكري و الذي استلمه هو كان أضعاف المبلغ الذي جاءه من مجموع كتاباته.
مشاعر مختلطة تموج برأسه، إثارة، مغامرة، خجل، خوف، ثم رغبة أكثر في الإثارة. ظن أن كتابته لمغامرات جسد و نجاحها التجاري و الضجيج الذي أثارته سيساعد و ينشط كتاباته هو التقليدية، قرر أن يضيف إلي كتاباته بعض الجديد، بعض الإثارة المحسوبة لكنها ستظل عميقة هادفة. تفرغ لكتابة رواية جديدة، عندما انتهى منها أعطاها للناشر الذي وعده خيرا، في نفس الوقت جاءت رواية جديدة لشيرين فكري كي تحطم أرقاما قياسية و تهز عالم الأدب و عالم قلة الأدب، عاود الاسلاميون ضجيجهم على الرواية الجديدة، كانت فرحة الناشر طاغية عندما رفع أحد المحاميين الإسلاميين قضية على شيرين فكري و على دار النشر، بينما كتب هو تعليقا في أحد الصفحات الأدبية يثني على الرواية و يطلب من شيرين فكري أن تقابل قراءها و نقادها.
مرت حوالي ثلاثة أشهر صدر خلالها طبعتان جديدتان من كتاب شيرين فكري الثاني، بينما سقطت روايته هو الأخيرة تجاريا كالمعتاد و لم يلتفت إليها أحد من النقاد. انتابه شعور بأنه كمن يصيح وسط بلدة كل سكانها صم لا أحد يسمعه و الجميع ينظرون إليه و لتعبيرات وجهه و هو يصيح كأنه معتوه.
@ @ @ @ @
نسق مع الناشر لعقد مؤتمر صحفي، دون أن يفصح عن نيته، ظن ناشره أنه سيعلن عن شخصية شيرين فكري خلال المؤتمر و قد يصحبها معه، حضر المؤتمر العديد من النقاد و الصحفيين المسئولين عن الصفحات
الأدبية. بدأ هو الحديث، دخل في الموضوع مباشرة، قال:
ـ خلال السنوات الماضية حاولت تقديم ما أعتبره أدبا راقيا، أدب يحث على التفكير، يتعامل مع مشاكل مجتمعنا دون أن يكون مباشر أو موجها، أدب تعشمت ان يغير أو يساهم في تغيير واقعنا، تناولت في روايتي قبل لأخيرة نظرة المجتمع لذوي الاحتياجات الخاصة، حاولت أن أقدم للقارئ مشاعر و أحاسيس هذه الفئة متعشما أن تجد الرواية أذنا صاغية واعية عند القراء و أن تؤدي إلى تغيير في نظرتنا نحو هؤلاء البؤساء، لكني كنت متفائلا أكثر من المفروض فعدد النسخ التي بيعت كان محدودا جدا و لم تجذب الرواية انتباه النقاد. روايتي الأخيرة كانت عن نظرة مجتمعنا الظالمة للمطلقات، أيضا فشلت الرواية تجاريا، و ما عدا ناقدة واحدة تحمست للرواية من منطلق كونها ناشطة نسائية لم يعطها النقاد حقها في الاهتمام. لذلك أصدقائي أنا هنا لأعلن لكم اعتزالي الكتابة، فأنا تَعِبْ و ليس عندي المقدرة على مواصلة الجهاد من أجل أدب راقي، شكرا لحضوركم و تمنياتي لكم بمساء سعيد.
لم يبق في المكان ليرد على أسئلة الحضور و الذين تباين رد فعلهم من اللامبالاة إلى الصدمة.
في طريقه للخارج همس في أذن ناشره:
ـ عندي لك رواية جديدة لشيرين فكري ستحطم العالم.