بقلم: بشــير القــزّي
ذات يوم أحدٍ من شهر آذار منذ حوالي ثلاث سنوات، قصدتُ كنيسة دير مار مطانيوس الكبير في “أوترمون” في مدينة مونتريال وذلك للمشاركة بجنّاز الأربعين لوفاة والدة أحد أصدقائي. بعد ان أوقفت سيارتي بجانب رصيف أحد الشوارع المحيطة بالدير، أخذت أمشي نحو الكنيسة. زرقة السماء كانت صافية بينما أَشِعَّة الشمس الذهبية كانت تجد لنفسها أروقةً تسمح لها بالتسرب عبر الأبنية لتطال بعضاً من أغصان الشجر المتعرّي ومساحات من الطرقات والأزقًّة والأرصفة. رغم ذلك كان بردٌ قارسٌ لم يمنعه معطفي الأسود من اختراقه للوصول الى صلب جسمي.
بعد ان صعدت الدرج الرئيسي فتحت الباب الخشبي الخارجي ومن ثمّ عبرت الرواق للوصول الى الباب الداخلي. دخلت قاعة الكنيسة التي كانت في ماضٍ خلا كنيساً لليهود وقد تم ترميمه في بداية الثمانينات بعد ان انتزعت كل النجوم المسدّسة الزوايا. بهو الكنيسة ينقسم الى أربعة أقسام: الوسط وهو يأخذ القسم الأكبر من المساحة وهو مزنّر بجناحين واحد من اليمين والآخر من اليسار يعتلي كلٌّ منهما المنطقة الوسطى بنحو ثلاث درجات. أما القسم الرابع في صدر القاعة فما هو إلا المذبح المرمري الجميل الذي يزيده رونقاً الحائط المزيّن برسومات فسيفسائيّة والمتواجد خلفه.
بينما كانت الجموع تتوافد لحضور القداس، دخلت من الممر الأيمن للصالة وجلست على طرف أحد المقاعد الطويلة المصنوعة من خشب السنديان الصلب والمطلية بفارنيش خاص لوقايتها. ورحت أفكّر بزوجتي الموجودة خارج البلاد في زيارة لابنتنا في دبي وإذ بعائلة من ثلاثة أشخاص طلب مني احد أفرادها الغوص داخل المقعد لإفساح مجال لهم بالجلوس.
أزحت نفسي نحو اليسار حتى وصلت الى جوار سيدة في العقد الثامن من العمر كانت قد دخلت من الممر الأوسط وكان يجلس عن يسارها رجل يأخذ المكان الأقرب من الممر الأوسطي. كانت المسافة التي تفصلني عنها بمثابة ما كان يأخذه معطفها الذي طوته على المقعد عن يمينها والحقيبة الجلدية السوداء التي وضعتها فوقه. كانت ترتدي على رأسها منديلاً ابيض عليه رسومات سوداء يغطي معظم شعر رأسها وقد تمكنت بصعوبة من ربطه بعقدتين تحت ذقنها. أعادني منظهرها الى ايام طفولتي حيث كانت النساء يرتدين مناديل على رؤوسهن عندما يدخلن الكنائس! كان لها بعض البدانة في جسمها وكانت ترتدي فستاناً قماشه معرّق بألوان مائلة للأزرق وسترة كحليّة. اما أنفها فكان بحجمه يعطيها نوعاً من الوقار وبالأخص بالتالولة البارزة على جانبه الأيمن. أما عيناها فكانتا كبيرتين يكلّلهما حاجبان لم يعبث بهما ملقط شعر منذ زمنٍ بعيد!
وما مرّ وقت قصير لجلوسي حتى عطست السيدة عطسة دوت الصالة بصوتها وكانت قد تلقتها بسرعة البرق بكفّيها كليهما. بعد دقائق تلت العطسة الأولى عطسة ثانية ثم ثالثة الى ما هنالك. وكانت مواظبة على تلقف العطسات بكفيها كاملة ما خلا القليل من الرذاذ الذي كان يفلت من بين أصابعها!
لم يكن بإمكاني الهروب من موقعي لا من ناحية اليمين ولا من ناحية اليسار. جعلت انتظر الفرج او نهاية القداس وكان عمودي الفقري يزداد تقويساً نحو اليمين مع كل عطسة!
وما زاد “الطين بلّة” أن كان وصول “البركة”. وللذين لا يعرفون بالتفصيل كيفيّة إيصال البركة لدى الموارنة الى جميع المصلّين سأحاول ان اشرحها باختصار. يُعطي الكاهن البركة الى عدد من الأطفال الذين يلبسون اثواباً بيضاء. يتوزع الأطفال الصالة أقساماً بحيث يذهب كلٌّ منهم لإعطاء البركة للجالس على طرف كل صف وذلك بلمس يده. عندئذٍ على كل من تصله البركة ان يوصلها الى الجالس بجنبه. وطريقة الإيصال تتم بأن المستلم يضم كفيه ليتمكن العاطي من ان يطبق بكفيه فوق يديه، ثم المستلم يفتح يديه ليعطي بدوره البركة لجاره بنفس الطريقة…
ذرعت لمّا جاء دوري. لا مجال للفرار. أطبقتُ كفيّ وادرت يديّ نحوها وأغمضت عينيّ. المسألة لا تستغرق أكثر من جزء من الثانية! …بعد اكثر من ثانية كنت مازلت أشعر بيديّ عالقتين بين كفّيها كما كنت أشعر بنوع من الرطوبة اللاصقة تغطي ما لمست من بشرتي. فتحت عينيّ لأجدها تبتسم لي وهي تميل رأسها من اليمين الى اليسار!
انتظرت بفارغ الصبر وقت المناولة لأتمكن من مبارحة مكاني. كنت اشعر طوال ذلك الوقت بأن الجراثيم تجهد لاختراق جلدي. ذهبت بأسرع ما يمكن الى الحمام لأغسل يديّ مراراً عديدة. وبعد ان انتهيت لم أعد الى مكاني!