بقلم / مسعود معلوف
في الثالث والعشرين من شهر مارس 2023، قام الرئيس بايدن بزيارة الى العاصمة الكندية أوتاوا لمدة 24 ساعة، وهي الزيارة الأولى له الى هذا البلد منذ توليه الرئاسة في 20 يناير 2021.
لقد جرت العادة أن تكون أول زيارة يقوم بها الرئيس الأميركي خارج البلاد بعد استلامه الحكم الى أقرب الدول مثل كندا أو المكسيك، أو الى بريطانيا، التي هي من أقوى الحلفاء للولايات المتحدة عبر المحيط. ولكن الرئيس السابق دونالد ترامب كسر هذا التقليد وأجرى أول زيارة له كرئيس الى المملكة العربية السعودية.
بسبب جائحة كورونا التي كانت متفشية إبان استلام بايدن الرئاسة، تم عقد أول اجتماع بينه وبين رئيس الوزراء الكندي جاستن ترودو إفتراضيا بتاريخ 23 فبراير 2021 وقد كان ذلك اول اتصال يجريه بايدن مع أي رئيس دولة أو وزراء بعد تسلمه مهامه الرئاسية.
من المفيد إبراز بعض أوجه العلاقة بين كندا والولايات المتحدة قبل الحديث عن تفاصيل الزيارة وما حققته.
باختصار كلي، يمكن القول أن العلاقات الأميركية الكندية قوية للغاية بسبب الجغرافيا أولا، إذ تتقاسم الدولتان حدودا برية تبلغ حوالى تسعة آلاف كيلومتر، وكذلك بسبب تبني الدولتين نفس القيم الإنسانية والديمقراطية، ولهما مصالح اقتصادية مشتركة ومواقف متقاربة جدا في معظم الشؤون الدولية. كما أنه، في مجال العلاقات الدبلوماسية، لكل من الدولتين بالإضافة الى السفارة في عاصمة الدولة الأخرى قنصليات عامة في معظم المدن الكبرى وعدد غير قليل من المكاتب التجارية.
يعبر الحدود البرية بصورة يومية ما يقارب الأربعمائة ألف شخص (باستثناء فترة تفشي جائحة كورونا) وقد بلغ التبادل التجاري بين البلدين حوالى 1،3 تريليون دولار في العام الماضي.
على هذه الخلفية من العلاقات الثنائية الممتازة تمت زيارة الرئيس بايدن الى العاصمة أوتاوا وقد تخللها، في جو من الحفاوة الواضحة، لقاءات خاصة ورسمية مع رئيس الوزراء ترودو ومع عدد من كبار الشخصيات السياسية، كما القى بايدن خطابا في البرلمان تميز بالتشديد على قوة العلاقة الأميركية- الكندية مع بعض الإشارات الودية والعاطفية، كما عقد الزعيمان مؤتمرا صحافيا مشتركا، واختتمت الزيارة بعشاء رسمي كبير في متحف الطيران حضره مئات الرسميين.
كون العلاقات الكندية الأميركية ممتازة لا يعني أنه لا يوجد بعض الملفات الخلافية، ولكنها أمور غير جوهرية لا تقلل إطلاقا من أهمية العلاقة القوية والصداقة المتينة التي تربط بين البلدين. ومن هذا المنطلق، فقد شملت المباحثات شؤونا ثنائية وقضايا دولية.
أولا، في مجال الشؤون الثنائية:
- من أهم المسائل التي تشكو منها كندا مسألة اللجوء غير الشرعي حيث يقوم آلاف اللاجئين بعبور الحدود الأميركية-الكندية بصورة غير شرعية إذ بلغ عددهم في عام 2022 حوالى أربعين ألفا، وكانت كندا لا تستطيع ترحيلهم الى الولايات المتحدة لأن هذه الأخيرة لم تكن تقبل بذلك.
نتيجة لزيارة بايدن والمحادثات التي جرت في هذا الموضوع، أصبح من الممكن لكندا، وبعد أن وافقت الولايات المتحدة على تشديد المراقبة على حدودها الشمالية، إعادة اللاجئين غير الشرعيين من دول أميركا اللاتينيية وغيرها الى الولايات المتحدة، وقد أراح هذا الإتفاق الكنديين بشكل كبير إذ تم حل هذه المشكلة التي تفاقمت في السنوات الأخيرة. - هنالك أيضا مسألة قانون تقليص التضخم المالي الذي اقره الكونغرس الأميركي منذ سنة تقريبا بناء على دفع وتصميم من الرئيس بايدن، وبموجب هذا القانون، تقدم الإدارة الأميركية دعما ماليا للشركات التي تنتج سيارات كهربائية وذلك في إطار سياسة بايدن لحماية البيئة.
لقد أدى تطبيق هذا القانون الى صعوبات كبيرة للشركات الكندية في منافسة الشركات الأميركية، علما أن دولا أوروبية مثل فرنسا وألمانيا تأثرت أيضا من تطبيق هذا القانون، هذا بالإضافة الى سياسة بايدن الإقتصادية التي تشجع بشتى الطرق شراء المنتجات الأميركية. وافق بايدن أثناء زيارته على معالجة هذه المشكلة ليس فقط بالنسبة الى كندا بل أيضا بالنسبة الى المكسيك إذ أن هذه الدول الثلاث مرتبطة باتفاقية للتجارة الحرة علما أن القانون الأميركي الذي تبناه بايدن لدعم الشركات الخاصة يخالف بعض بنود هذه الإتفاقية. - كذلك جرى البحث في مسألة معالجة مياه البحيرات الكبرى المتضررة من التلوث بسبب المصانع الموجودة قرب شواطئها وما يصب فيها من مواد كيمائية، وهي بحيرات يشرب من مياهها حوالى أربعين مليون نسمة، وهي تحاذي ست ولايات أميركية (مينسوتا، ويسكونسن، إيلينوي، إنديانا، ميشيغن وبنسيلفانيا) ومقاطعتين كنديتين هما أونتاريو وكيبيك.
عام 1972، تم توقيع اتفاقية بين رئيس وزراء كندا آنذاك بيار أليوت ترودو (والد جاستن ترودو) والرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون لمعالجة التلوث المتزايد في هذه البحيرات، وقد جرى تحديث هذه الإتفاقية فيما بعد. في السنوات الخمس الماضية، لم تتجاوز مساهمة كندا في هذا المشروع مبلغ 33 مليون دولار بينما بلغت المساهمة الأميركية 300 مليون دولار سنويا. وقد أقر الكونغرس مبلغ 425 مليون دولار لهذه الغاية للعام 2024، ونتيجة للقائه مع بايدن، وافق ترودو على تخصيص مبالغ إضافية ملموسة لتنظيف مياه البحيرات وحمايتها من التلوث، وهذا ما أدى الى ارتياح واضح من الجانب الأميركي. - منظومة الدفاع الجوي لأميركا الشمالية المعروفة باسم “نوراد” تم تأسيسها في العام 1958 لمراقبة وحماية الأجواء الأميركية والكندية، وقد جرى بحث هذا الموضوع أثناء زيارة بايدن في ضوء إسقاط الولايات المتحدة لمنطاد التجسس الصيني، كما تم الإتفاق بين الجانبين على تحديث جميع أوجه الدفاع المشترك عن هذه الأجواء في إطار المنظومة، علما أن كندا ستشتري من الولايات المتحدة 88 طائرة قتالية من طراز إف 35، وهي من أحدث الطائرات الأميركية، كما أن الولايات المتحدة ستزيد استثماراتها في هذه المنظومة الدفاعية الهامة للبلدين، خاصة في إطار المواقف العدائية الروسية من الغرب إجمالا.
ثانيا، في مجال القضايا الدولية:
من الطبيعي أن تكون حرب روسيا على أوكرانيا في طليعة المواضيع الدولية التي بحثها الجانبان، وكذلك تطورات الموقف الصيني سواء مع روسيا، أو في موضوع التوسع البحري الصيني في مياه المحيطين الهندي والهادئ، او أيضا في مجال المنافسة الإقتصادية الصينية، وكيفية المواجهة المشتركة لهذه التحديات.
جدير بالإشارة أن التوافق كان شبه تام بين الدولتين في معظم الأمور الدولية، والمسألة الوحيدة التي بقيت عالقة كانت قضية جزيرة هايتي. معروف أن هذه الدولة القريبة جدا من الولايات المتحدة، منذ اغتيال رئيسها منتصف عام 2021، تسودها الفوضى وغياب شبه تام للأمن حيث تسيطر عليها عصابات مسلحة، وقد سبق أن اقترحت إدارة الرئيس بايدن تشكيل قوة أمن دولية بقيادة كندا لتثبيت الأمن وتأمين بعض الإستقرار، ولكن كندا ما زالت مترددة في موافقتها على ذلك، ومن المحتمل أن تستثمر في هايتي حوالى مائة مليون دولار لتحريك عجلة الإقتصاد بدل القيام بمهمات أمنية في الجزيرة.
لقد حاول بايدن ونجح من خلال هذه الزيارة في تبديد بعض الغيوم التي ظهرت في العلاقات الثنائية بسبب الرئيس السابق دونالد ترامب الذي لم يقم بزيارة الى كندا إلا في إطار اجتماعات مجموعة الدول السبع عام 2018 في مدينة كيبيك التي غادرها حتى قبل انتهاء الإجتماعات، كما كان له بعض المواقف غير الودية تجاه رئيس الحكومة ترودو حين وصفه بالضعيف وغير الصادق.
لقد اعتبر البعض أن لقاءات بايدن وترودو وتثبيت الشراكة القوية بين البلدين كانت بمثابة رد على زيارة الرئيس الصيني الى موسكو، وقد يكون في ذلك بعض الحقيقة لأن العلاقات الكندية-الصينية ليست على ما يرام وهنالك شكاوى وتحقيقات في اتهامات موجهة للصين بتدخلها في الإنتخابات الكندية عام 2019 وعام 2021، كما أن الصين كانت اعتقلت مواطنين كنديين اثنين للرد على توقيف كندا للمديرة المالية الصينية لشركة هواوي، وهذه القضية قد حلت فيما بعد بالإفراج عن المعتقلين، ولكن العلاقات بين البلدين ما زالت غير ودية.
على صعيد آخر، معروف أن بايدن عنده زلات لسان تتكرر في شتى المناسبات، وقد حصل ذلك أثناء إلقائه خطابه في البرلمان الكندي حيث كان يحاول توجيه تحية الى كندا ولكنه أخطأ ووجه تحيته الى الصين بدل كندا، ما أثار موجة من الضحك والقهقهة داخل البرلمان، وإن كان بايدن أسرع في تصحيح هفوته ضاحكا.
في الختام، يمكن القول أن زيارة بايدن الى كندا، والحفاوة الكبرى التي تميزت بها، عززت الجبهة القائمة في شمال أميركا بين الدولتين في مقابل القوة الصينية المتصاعدة باستمرار، وفي تقوية التحالف لمواجهة روسيا في حربها على أوكرانيا، كما أنها أدت الى تعزيز العلاقات الإقتصادية ليس فقط بالنسبة الى التبادل التجاري وتوفير المعادن الكندية للولايات المتحدة المحتاجة اليها في صناعاتها، ولكن أيضا وبصورة خاصة في الإتفاق على تخصيص استثمارات ضخمة من قبل البلدين في المجال التكنولوجي لإنتاج المزيد من أشباه الموصلات لتقليص استيرادها من الصين وحتى لمنافسة الصين في انتاج هذه المواد التي تتطلبها صناعة السيارات الكهربائية والهواتف النقالة وغيرها من منتوجات التكنولوجيا الحديثة التي أصبحت الصين رائدة في إنتاجها وتصديرها.