بقلم: المطران ميلاد الجاويش
غالبًا ما تُصوَّر العذراء مريم في كنائسنا مغطّاة الرأس. لم أقع إلى اليوم على أيقونة أو صورة تُظهرها بلا غطاء. تغطّت العذراء لأنّ زمانها فرض عليها الحجاب. السبب اجتماعيّ، فقط لا غير. كان من غير اللاّئق آنذاك أن تخرج المرأة اليهوديّة من بيتها بلا غطاء أو أن تجالس الرجال، حتّى في بيتها، مكشوفة الرأس.
في كتابنا المقدّس، لا يُطرَح موضوع تغطية الرأس إلاّ عند القدّيس بولس، وذلك في معرض كلامه على النظام في اجتماعات الصلاة. قال في إحدى رسائله: «كلّ امرأة تُصلّي أو تتنبّأ وهي مكشوفة الرأس تَشينُ رأسَها كما لو كانت محلوقةَ الشَعر. وإذا كانت المرأة لا تُغطّي رأسَها فلتَقصَّ شَعرها، ولكن إذا كان من العار على المرأة أن تكون مقصوصةَ الشَعر أو محلوقتَه فعليها أن تغطّيَ رأسَها» (1 كور 11: 5-6). وبعد آيات قليلة، يُكمل جازمًا: «أيليقُ بالمرأة أن تصلّي لله وهي مكشوفة الرأس؟ أما تُعلّمكم الطبيعةُ نفسُها أنّه من العار على الرجل أن يُعفيَ شَعره، على حين أنّه من الفخر للمرأة أن تُعفيَ شَعرها؟ لأنّ الشَعر جُعِلَ غطاءً لرأسها. فإن رأى أحدٌ أن يجادل، فليس مثل هذا من عادتنا ولا من عادةِ كنائس الله» (1 كور 11: 13-16).
من الملاحَظ أنّ النصّ لا يأتي على ذكر الحجاب أو ما شابهه، بل يتكلّم فقط على المرأة التي يجب أن تغطّيَ رأسها. ويتبيّن أيضًا أنّ ما يغطّي رأس المرأة هو شعرُها الطويل لا الحجاب، لأنّ «الشَعر جُعِلَ غطاءً لرأسها»، لكونه فخر المرأة وعلامة على أنوثتها. عندما أراد النبيّ أشعيا أن يصف شناعة العقاب الذي سيُنزله الربّ ببنات أورشليم الفاتنات، هدّدهنّ بالصلع والقَرَع: «سيُصلع السيّد هامات بنات صهيون ويعرّي الربُّ رؤوسهنّ… ويكون لهنّ النَتن بدل الطيب، والحَبل بدل الزنّار، والقَرع بدل تجعيد الشعر» (أش 3: 17، 24).
هناك من يتّهم بولس الرسول بعدائه للمرأة، لكونه قال أيضًا في موضع آخر: «لِتصمُتِ النساءُ في الجماعات، شأنَها في جميع كنائس القدّيسين، فإنّه لا يُؤذَن لهنَّ بالتكلّم» (1 كور 14: 34). ظالمة هذه التهمة، لأنّ إطار النصّ يُشدّد على النظام في اجتماعات الصلاة حصرًا، وقد طال النهي الجميع، رجالاً ونساءً على السواء. أيُعقَل أن يكون ضدّ المرأة مَن فَرَضَ على الرجل أن يحبّها شديدًا كما أحبّ المسيحُ الكنيسة وبذل ذاته من أجلها (أف 5: 25)؟
في كلّ حال، لسنا هنا أمام فرائض دينيّة بَحْت، بل أمام فرائض تماشي عادات المجتمع السائد. إذا تبدّل المجتمع وتطوّر، فلا ضير أن تتبدّل الفرائض وتتطوّر العادات. ليس الدين كلُّه عقائد إلهيّة ثابتة ومطلقة. فيه أيضًا فرائض فرضَها الزمن، وعليها أن تتطوّر إن تطوّر الزمن.
الكنيسة لا تخرج من مجتمعها، فأعضاؤها أبناء المجتمع. كانت المرأة قديمًا تدخل الكنيسة مغطّاة الرأس وتجلس في المكان المخصَّص للنساء، أمّا اليوم فبطُلَت هذه العادة في أغلب الكنائس، إلاّ في بعض القرى المحافظة. تدخل العائلة الكنيسة، الأبُ والأمّ والأولاد معًا، ويجلس الواحد قرب الآخر أمام الربّ.
في المسيحيّة، لا فريضة أن تلبس نساؤنا المنديل، «على مثال مريم العذراء المحجّبة» (كما يطالبنا البعض)، لأنّ لمريم عصرها ولنسائنا عصرهنّ. عفّة المرأة عندنا لا تتوقّف عند جسدها ولا عند عيون رجالنا، لأنّنا نسعى جاهدين إلى أن نثقّف فيهم «العيون» الباطنيّة.
لم أضطرّ يومًا، في كنيستي، إلى فرض الحشمة على بناتها ونسائها. ليس لأنّني متحرّر الفكر، متفلّت الأخلاق، ولا طبعًا لأنّني أمقت العفّة الزائدة، بل لمبدأ أرقى يقول بلزوم الحشمة عند المرأة داخل الكنيسة وخارجها. كنتُ أخشى، لو ناديتُ بوجوب الحشمة «في الكنيسة»، من أن أوحي، بطريقة غير مباشرة، بأنّ العفّة مُلزمة في الكنيسة فقط، أمّا في الخارج فبناتنا حرّات. مكان لربّك، ومكان لعبيده! بدل ذلك، أحاول أن أُقنع أبنائي بوجوب الحشمة أينما كان، في خارج الكنيسة كما في داخلها، لأنّ حياة المسيحيّ لا تتجزّأ بين ما هو لله وما هو للعالم. الله سيّدنا أينما كنّا.
المرأة المتفلّتة الشَعر لا تخيفني ولا تغريني. الإغراء ليس في شعرها، بل في عينيّ، في قلبي. «من القلب تنبعث الأفكار الشرّيرة»، قال يسوع (مر 7: 21). هو يميل في إنجيله إلى أن يربّي فينا النفس الباطنيّة، روحَنَا، داخل الكأس والصحفة، لا خارجهما: «سمعتُم أنَّه قيل: لا تَزنِ. أمّا أنا فأقول لكم: مَن نظر إلى امرأةٍ بشهوة، زنى بها في قلبه» (مت 5: 27-28).
حجاب المرأة عَينانا، لا هو منديل ولا من قماش. «سراجُ الجسد هو العين. فإن كانت عينكَ سليمة، كان جسدك كلُّه نَيّرًا. وإن كانت عينكَ مريضة، كان جسدك كلّه مظلمًا. فإذا كان النورُ الذي فيك ظلامًا، فيا له من ظلام!» (مت 6: 22-23).
تصبحون إذًا على عيونٍ سليمة!