بقلم: خالد التوزاني
إنَّ سفر المحبّين، يتعلّق برحلات بعض البشر المحبّين للرَّحمن، الفانين عن الخلق ابتغاء الوصول للخالق، الذين يحبون الله ويحبّهم الله، سفر هؤلاء يختلف في أهدافه وطرقه ومقاصده عن سفر عامة الناس، وهو ما سيحاول هذا المقال الوقوف عليه وإبرازه.
إن السفر هو الحياة و الحياة سفر، ومعلوم في علم الفلك أن الكون في حركة مستمرة وفي تمدد وانتشار، زمن ثم فالسفر حقيقة تتعلق بالكل والكل يتعلق بها، ومن الأسفار التي أحدثها الإله جل في علاه أنه أنزل القرآن، وخصّ رسله وأنبياءه كُلاًّ بسفر أو أسفار تتلاءم وطبيعة البعثة والنبوة، حيث أسرى بمحمد صلى الله عليه وسلم، وأهبط آدم إلى الأرض، ورفع إدريس عليه السلام، وحمل نوحا في البحر، وذهب بإبراهيم الخليل ليمنحه كراماته، وأخرج يوسف…، أسرى بلوط، وأمر موسى بالهجرة فرارا من قومه، ورفع عيسى إليه، وذهب بيونس إلى بطن الحوت… وأنزل الروح الأمين على قلوب أنبيائه، وأصعد الكلم الطيب إليه.. فكل هذه نماذج من الأسفار التي تطال أو يطولها الكل.
فالسفر ضرورة حتمية وسنة كونية، كما أن الإنسان يجسِّد في مساره كل أنواع السفر؛ فخروجه إلى الوجود سفر، نموه الجسدي سفر، جريان دمه في العروق سفر، كلامه دائم السفر، حروف كلامه مسافرة عند خروجها من أعماق النفس، وأفكاره دائمة السفر بين المحمود والمذموم، وفي المتنفس سفر للأنفاس، وفي الرؤية كما في الرؤيا سفر للأبصار في المبصرات، وفي تعبير الرؤيا سفر وعبور من عالم إلى عالم، وأما عوالم الخيال فكلها أسفار في أسفار. ثم إن موت الإنسان سفر أيضا من العالم المحدود إلى العالم المطلق. فالإنسان إذن في سفر دائم قبل أن يخلق، وحياته عبارة عن سفر من الميلاد إلى القبر، ومنه إلى البرزخ، وفي البرزخ يسافر إلى الحشر فإلى الصراط ثم إمّا إلى جنة أو إلى نار، وفي الجنة سفر دائم كما في النار سفر دائم. ولذلك قال المتصوف الأديب أبو سالم العياشي:
فاقـضوا مـآربكم عجـالا إنما
أعماركم سفر مـن الأسفار
وفي ظل كل هذه الأسفار تختزل الأسفار المشروعة للإنسان أو المكلف بها في ثلاثة أسفار، ضمن ثلاثة أنواع من السفر: سفر من عند الله وسفر إليه وسفر فيه، أهمها التي فيها السفر رباني، أو يكون فيها المرء مسافرا به، كما هو حال الأنبياء والأولياء المجتابين المصطافين المحبّين للرحمن، الذين عن الخوف والحزن فرُّوا وإلى الحق تعالى طلبوا والتمسوا، فكان فوزهم كبيراً.
يوجز الشيخ الأكبر ابن عربي الحاتمي كل أسفاره وهجراته إلى عالم الملكوت، وتنقلاته من الظاهر إلى الباطن بسلوك طريق الحقيقة حتى الوصول إلى الحق حيث النقطة ومركز الدائرة بقوله :
(إني سافرت لكي أصح وأغنم وأتعلم ما لم أكن أعلم، فهجرت الأهل والوطن ورحلت من ساعتي عن أرض البدن ورقيت في صعود وانتقل بدر حقيقتي من سعد الذابح إلى سعد السعود، وامتطيت الجواب قاصدا حضرة الملك، وفنيت بالمنة عن العادة مخافة الهلاك وقطعت اليباب الشاسع حتى بلغت المقام التاسع، فسرت في المحاق ثلاث لأفوز عند الرجوع بثلاث، وخلعت النعلين عندما جزت موضع القدمين وخرقت الحجاب وفتحت الأبواب فأشرفت على جبل الطور وبدا لي فيه الكتاب المسطور فرأيته جبروتيا فنزهت نفسي عنه فقرأته ملكوتيا فعندما تلوته ووقفت على سره فهمت. رأيت الواحد بالواحد والتقى الغائب بالشاهد فسر برجوعي إليه، فكلمني به عنه فقال ليس وراء الله منتهى، وإن في ذلك لذكرى لأولي الألباب والنهى، ثم قال لي متى أحطت بالستة قلت عندما طلقتها البتة، فقال متى وقفت على مركز الدائرة قلت بعدما مارجمت العاهرة، والسلام).
يصرح ابن عربي أن مراده من السفر هو أن يغنم ويتعلم ما كان يجهل، ويبين أنه حقق هدفه بهجرة الأهل والوطن والبدن والترقي في مدارج الصعود إلى الحق إلى أن بلغ مقصوده ونال مراده من بلوغ حضرة الحق ونيل القرب. وهي هجرة قاسية صعبة، لأن الإنسان اجتماعي بطبعه ومن الصعب التخلي عن كل الناس مرة واحدة ولمدة قد تطول، كما أن للجسد سطوة وسلطان وقيود يصعب التحرر منها لكل راغب، لهذا لم ينل الوصال من لم يكابد مشقة السفر إلى الحق، ولذة الحيرة قبل الوصول شوقا وخوفا من عدم بلوغ المراد، وعند الوصول وبعد الوصول.
يميز أبو حامد الغزالي بين سفرين اثنين: “سفر بظاهر البدن عن المستقر والوطن، إلى الصحاري والفلوات. وسفر يسير القلب عن أسفل السافلين، إلى ملكوت السماوات، وأشرف السفرين السفر الباطن” ، فهو أحسن السفر كما نقل ذلك أبو سالم العياشي في رحلته:
مَا أحسَن الضَّحك الجَارِي بِغير فَم
ورُؤْيَةٍ غابَ عَنْهَا هَيـكل البَصَــر
كُنْ قَاطِنـًا اهرًا والسِّر مُرْتَـحِــــلٌ فَالسّـَيْرُ مِنْ دُونِ رِجْلٍ أَحن السَّفَــر
فهو سفر وجداني إلى مدارج الحقيقة الروحية، يُسْفِرُ عن معدن الإنسان، ويسير به نحو نوع من الترقي في عالم الحقائق، يقول عبد الكريم الجيلي: “فهذا سفر أسفر عن محياه، وأظهر ما منحه مولاه، فإذا تحقق الإنسان بهذه الحقائق، واستحضر هذه الطرائق، سافر من معدنه إلى نباته، إلى حيوانيته، إلى إنسانيته، إلى نفسه، إلى عقله، إلى روحه، إلى سره، إلى حقيقة حقيقته وكليته المطلقة” ، حيث يشير إلى مراحل بناء الإنسان الكامل أو المتوازن والمنسجم مع غاية وجوده، ذلك البناء المنشود الذي لا يتحقق إلا بالسفر الروحي أو الوجداني وهو السفر الصوفي بتعبير أدق، حيث حيث لا حدود لفوائد هذا النوع من الأسفار، الذي تكون النفس مسالكه وممالكه، ويكون القلب مسافرا فيها، أو منتقلا من مقام إلى مقام؛ ذلك أن السفر عند القوم نوع من “الانتقال عن المقامات، والإنزال في أخرى، كالانتقال من مقام الإسلام إلى الإيمان، ثم من مقام الإيمان إلى الإحسان” ، ويقتضي ذلك قطع كل العلائق، والخروج عن الشهوات والعوائد، حيث “لا يتحقق السفر ويظهر السير إلا بمحاربة النفوس، ومخالفتها في عوائدها، وقبيح مألوفاتها وشهواتها” ، وحسب همة السالك يكون نوع السفر الذي يطيقه قلبه، وتقدر عليه جوارحه، وقد لَخَّصَ ابن عجيبة أنواع سفر القلوب إلى حضرة علام الغيوب في الانتقال من أربعة مواطن إلى أربعة أخرى، حيث يسافر أولا: من موطن الذنوب والغفلة، إلى موطن التوبة واليقظة. ويسافر ثانيا: من موطن الحرص على الدنيا والانكباب عليها، إلى موطن الزهد فيها والغيبة عنها. ويسافر ثالثا: من موطن مساوئ النفوس وعيوب القلوب، إلى موطن التخلية منها والتحلية بأضدادها. ويسافر رابعا: من عالم الملك، إلى شهود عالم الملكوت، ثم إلى شهود الجبروت، أو من عالم الحس إلى عالم المعنى، أو من عالم الأشباح إلى شهود عالم الأرواح، أو من شهود الكون إلى شهود المكوّن .
نتبين من خلال أنواع سفر المحبّين انشغال هذا النوع من الأسفار ببناء إنسان متوازن قطع الأشواط في تحقيق منزلة مكارم الأخلاق ومقامات الإحسان ودرجات القرب من الحق والرفق بالخلق في سياق انتقال الكمال وتأثيره على الغير، وهو أحد أنواع السفر العرفاني من ضمن أربعة هي: التوجه إلى الله وترك الأغيار، ثم الاتصاف بصفات الحق، ثم الاتصال بالله، ثم العودة إلى الخلق بالكمال، وهي مجالات عرفانية وثقافية يمكن أن نفصّل القول فيها في المقالات القادمة إن شاء الله .






























