بقلم: سونيا الحداد
هبت عليك أيها القصر عاصفة الزور ترتدي عباءة ربيع يذرو الرمال في عيون حالمة والى نور الحرية شاخصة، في قلوب تتوق الى ريحان الزهور وضحك الاطفال يملأ سماءها بفرح النور. عاصفة شلَّعت اطراف أبنائها وزرتهم في أصقاع العالم الاربعة غرباء مهجّرون. ومن بقي بات في أرضه خيالا غريبا يئنّ تحت سطوة ملوك الجن وشياطين الديجور، تائها في شوارع قصره الذي رحلت منه تغاريد الكروان وأنغام النهوند وأقلام الاحرار النبلاء رسل البطولة والمجد، ولم يبق سوى نعاق البوم يئنون تحت وطئته، كيف الخلاص منه؟ لا يدرون.
يقولون أن هذا القصر حلّت عليه اللعنة وأصبح بعد هجرة ابنائه وقتل العديد منهم، مسكونا لا يمكن لك دخوله أو حتى الأطلاع على أخباره. مسكونا بصريخ الابرياء الذين قُتلوا والموتى الأحياء الذين يدورون في شوارعه يفتشون عن صراخ ضناهم وأحبائهم. مسكونا بعويل الاطفال اليتامى والجائعين والمعاقين الذين تقطعت أوصالهم دون أن يموتوا، يعيشون مسوخا لا ينظرون الى المرآة بعد اليوم ولا حتى السماء. ويُقال أن الحلم لم يعد يمرّ في سماء هذا القصر ابدا لكثافة الضباب الممزوج ببخور المصلين المسطّلين تحت وطأة أرباب التعاليم والتخاريف، سماسرة الأديان ويوم الدين. لم يعد بقدرة هذه العقول أن تميّز الليل من النهار، الزمان من المكان، الشر من الخير في شوارع قصرها المسكون والذي بات يميتها خوفا مجّرد حتى التفكير والتساؤل عن عنوان شوارعها وبيوتها، عن تاريخ عائلاتها ونسبهم.
لقد تغيّرت كل المعالم والمعايير. هبت العاصفة وأخذت معها الربيع وكل الفصول. أخذت معها أبطال الجبال والوديان وكل النمور، أخذت محبي الطيور والزهور وأزهقت ارواح الصقور. باتت الارض قاحلة من القلوب وجدران القصر غطته الدماء التي جفت وباتت جزءاً منه،لا يمكنك حتى الاقتراب منه كي لا تنهمر دموعك حمراء بلون هذه الدماء. نعم الدموع في كل مكان بعد أن رحل تغريد الكروان. الدموع باتت هي الهوية، تراها على كل الوجوه تحفر اخاديدها شاهدة على مأساة القصر المهجور. دراما من عدة فصول تحفر دموعها الى أبعد من الوجوه، الى أعمق الأسس والجذور التي باتت تسبح في وعث الدموع، يبتلع القصر عميقا وأعمق في ظلام الموت المحتوم.
هل ستسقط جدران هذا القصر ونبكي على أطلاله، هذا أذا بقيت له أطلال، أم اننا نحن الطيور سنحلق حنينا وغيرة في أعلى السماء ونغرد بأعلى الاصوات داعين الميت والمشرد والتائه بكل جرأة وأيمان، الى النهوض من السبات. نمد له اليد سرا أو علنا، نحمله الى طريق النور وسط الضباب، وندعوه مرة ثانية وثالثة ورابعة الى تنشق الورود بلسم الروح وسر الوجود؟ لم يعد الوقت يسمح بالكلام لمجرد الكلام فالقصر يغرق. إنه بحاجة الى عاصفة ثانية رحيقها فعلا ربيعيّ، يصنعها أبناءه الذين تلقّوا الدروس من ربيعهم الاول، يثقفون ويوعّون ويتجرأون على قلب المعايير، تخليدا لذكرى آبائهم وميراث فخر يخلّفونه لابنائهم؟ هذا القصر له شواهد مجيدة جعلت منه في الماضي، الاجمل والاكثر سحرا، ألأرقى وألأكثر الهاماً، وهو اليوم الاكثر ثراء ولا ينقصه سوى تعلم قاعدة جوهرية لاستمراره في الحياة الا وهي «العدل هو سر الملك»، والعدل هو المساواة للجميع وحب واحترام الآخر كما نحب ونحترم أنفسنا ومسح الدموع التي هي خير من ألف صلاة وأبقاء الصلاة في البيوت وليس على عرش القصور. إنها قاعدة يمكن لها أن تهدّ القصور أو تعمّرها لمن استوعب حكمتها وتملك تطبيقها.
عَسى أن تَكرهوا شيئا وهو خيرٌ لكم. هيئوا أنفسكم الى ولادة العاصفة قبل فوات الأوان، قصرنا رائع الجمال وتليق به الحياة فلا تدعوه يغرق بدموعه بل في ضوء نوره!