بقلم : نعمة الله رياض
كان المهندس / رؤوف جالساً في مكتبه عندما تلقي مكالمة هاتفية من صديقه الدكتور/ منير يطلب لقائه لإمر هام ، في الموعد المحدد قال له منير :- هل علمت بما يحدث الآن في عزبة بشاي التي تربينا فيها ؟ – ليس عندي أي علم ، هات ما عندك – لقد انتشرت في العزبة منذ أكثر من ثلاثة اسابيع أخبار عن نزول زيت مقدس من صورة العذراء مريم المعلقة في حجرة عفيفة إبنة العم بهنام ، ويتوافد حالياً أعداد كبيرة من الزوار من جميع المحافظات ، لإخذ البركة وتحدث لهم معجزات كثيرة – هل هذا معقول ؟ ، هؤلاء الناس يبحثون بأي طريقة عن الخلاص من الآمهم ولو عن طريق المعجزات !! يجب أن أرتب زيارة لمنزل خالتي في العزبة لإري وأعاين ما يحدث هناك ، هل ترافقني في الزياره ؟ – ولم لا ، ليس عندي مانع ! كانت فرصة جيدة في الوقت الذي استغرقته الرحلة بالقطار من القاهرة حتي سوهاج ، أن يتناقش الصديقان في هذه الظواهر التي تحدث من آن لآخر ومحاولة تفسيرها ، قال المهندس / رؤوف :- هناك شغف متمكن فى نفوس عدد كبير من المسيحيين ، وخاصة الأقباط الأرثوزكس ، علي ما يحدث من ظهورات للقديسين والنور والحمام، وتكريم رفات الموتي من القديسين ، بالإضافة الي نزول الزيت المقدس من صور القديسين ، وتكثر هذه الظهورات في الكنائس والأديرة والمزارات وايقونات المسيح والقديسين المعلقة في المنازل .. ويجب علينا الإعتراف بأن عدداًمنها صحيحة وموثقة مثل ظهور السيدة العذراء مريم في كنيسة الزيتون ونزول الزيت من صورتها لإكثر من ثلاثين عاماً، في كنيسة الأنبا بشوي ببورسعيد .. لكن علينا أيضاً ، وفي مقدمتنا الكنيسة ، تحري الدقة قبل الإعتراف بصحتها وتوثيقها بعد ذلك ، فمثلا انتشرت صور لظهور نور فى مطرانية ديرمواس بالمنيا وتعجل أسقفها وقال إن العذراء مريم تظهر فى الكنيسة ولكن ثبت بعد ذلك أنه غير حقيقى والصور مركبة ،(فوتو شوب) ، واعلن البابا تواضروس وقتها أن ظهور العذراء مريم فى ديرمواس غير حقيقى، ولا يمكن تشبيه بظهور العذراء فى الزيتون.. كما انتشرت شائعة ظهور الأم إيرينى رئيسة دير أبو سيفين للراهبات بمصر القديمة فى قداس عيد الميلاد ونفى القس بولس حليم المتحدث الرسمى باسم الكنيسة القبطية الظهور وقال :- الحقيقة أن الصور والفيديوهات المتداولة ليست ظهوراً حقيقياً ، وإنما هى لإحدى الراهبات التي كانت تصلى القداس !!. وصل القطار إلي محطة سوهاج ودهش رؤوف ومنير من عدد سيارات التوك توك التي تنتظر الركاب الذين وصلوا ومعظمهم ينادون :عزبة بشاي .. عزبة بشاي ، وبالرغم من أن العزبه تقع علي مسافة بضعة كيلومترات فقط من سوهاج إلا إنها إستقطبت عدداً كبيراً من سيارات التوك توك وحتي الموتوسيكلات من القري المجاورة لنقل الأهالي المتعطشين لمعاينة الزيت المقدس وأخذ بركته .. وصل الصديقان لمنزل العم بهنام ، والد عفيفة وزوج خالة المهندس / رؤوف ، الذي رحب بهما وإستأذن من الواقفين في الطابور لمقابلة الفتاة المبروكة وأخذ مسحة من الزيت المقدس .. صعد العم بهنام مع رؤوف ومنير للطابق الثاني ، دخلوا حجرتها، فوجدوها راكعه علي ركبتيها أمام صورة العذراء مريم ، كانت تصلي بصوت هادئ ومنخفض لكنه واضح : ( نعظمك يا أم النور الحقيقي ونمجدك ايتها العذراء القديسة والدة الإله ، لإنك ولدت لنا مخلص العالم ، أتي وخلص نفوسنا ، المجد لك يا سيدنا وملكنا المسيح ، فخر الرسل ، إكليل الشهداء ، تهليل الصديقين ، ثبات الكنائس ، غفران الخطايا ، نبشر بالثالوث القدوس ، لاهوت واحد ، نسجد له ونمجده ، يا رب أرحم ، يا رب إرحم ، يا رب بارك ، آمين.) عندما إنتهت عفيفة من الصلاة ، إستأذن الزوار أن يضعوا عطاياهم فى الصندوق الخشبي المغلق بقفل والمكتوب عليه (عطايا للفقراء) ثم انصرفوا .. دعا العم بهنام الصديقين لتناول طعام الغذاء علي مائدة صغيرة نقلت لحجرة عفيفة .. قال بهنام:- منذ حوالي شهر ، وفي منتصف الليل فوجئت بابنتي تطرق باب غرفة النوم طرقاً متواصلاً وهي تصيح:- صورة العذراء بتنزل زيت !! صعدت مع زوجتي وعفيفة وشاهدنا بقع الزيت متأنثره علي الأيقونة الورقية المعلقة فوق فراشها .. والآن دعوا إبنتي تكمل القصة .. قالت عفيفة :- كنت نائمة أسفل أيقونة للسيدة العذراء الباكية تحت صليب المسيح وهى أيقونة ورقية. وفي تلك الليلة كنت أعانى من الأرق، فصادف أن إلتفت إلي الأيقونة، عندما لاحظت لمعة دهنية يعكسها الضوء الخافت فى بعض مناطق الصورة، قمت فى الظلام ووقفت على الفراش ولمست الأيقونة لأجد بعض القطرات السائلة عليها سحبت يدى بسرعة ، وكانت المفاجأة الصورة عليها زيت ، قفزت حيث زر الإضاءة وعدت فوجدت عدة بقع من الزيت على الأيقونة وقطرات الزيت تتساقط من الصورة بكثافة ، جريت من الغرفة يملؤنى الخوف والرهبة، يا لها من معجزة، لقد اختارنى الله ليتمجد بإشاراته المباركة، وجعل أيقونتى يسقط منها زيتا مقدسا فى حجرتي .. هنا عقب بهنام قائلا:-جلسنا نتأمل لمدة نصف ساعة كيف سنخبر أقاربنا وجيراننا وكنيستنا بما حدث .. علي مائدة الغذاء حيث جلس العم بهنام ومعه زوجته وابنته ، وعلي الجانب الآخر جلس رؤوف ومنير ، لاحظ رؤوف أن عفيفة لا تأكل شيئاً وتكتفي بشرب الماء ، سألها :- لماذا لا تأكلين يا عفيفة ؟ تدخل بهنام قائلا :- منذ أن بدأ تساقط الزيت المقدس ، وهي لا تأكل شيئاً البتة رغم الحاحنا الشديد عليها الذي وصل لمحاولة تغذيتها بالقوة، ولكنها قاومت بشدة، ومنذ ذلك الحين تصوم منقطعه عن الطعام وتعيش علي ما تتناوله فقط من يد الكاهن الذي يحضر يومياً ليناولها قربانة كاملة (خبز التقدمة) وتشرب من عصير العنب الأحمر، إشارة إلي جسد ودم حقيقي للمسيح المصلوب .. إستأذنت عفيفة لتصلي وركعت علي ركبتيها ورددت الصلاة ( نعظمك يا أم ألنور ….) قال لها رؤوف:- لقد صليتي نفس هذه الصلاه من قبل ! – نعم أرددها 33 مرة كل يوم – ولماذا 33 مرة؟ -لإن المسيح عاش علي الأرض 33 عاماً – ثم لماذا لا تأكلين من الطعام العادي ؟ – ألرب يرسل لي الطعام السماوي ، كما أرسل لموسي وشعبه المن والسلوي – هذا كثير علي شابة عمرها ثماني عشر عاماً وفي مقتبل العمر ، فحتي فى الأديرة ، الرهبان لا يقسون علي أنفسهم مثلما تفعلين !! – نزول الزيت في حجرتي إشارة من السماء لأحقق مشيئة الرب .. – لكنك تعرضين حياتك للموت فوجهك شاحب وجسمك يبدو هزيلاً وحركاتك آضحت ضعيفة – إذا فقدت حياتي علي الأرض ، سأبدأ حياة جديدة في السماء ، وسيحتضني الرب لأكون من ملائكته – ألا تفكرين في الزواج الذي أحله الرب وباركه في عرس قانا الجليل ، وتنجبي أطفالاً يكونون هدية وبركة من السماء؟ – هناك كثيرات يعبرن من الباب الواسع ، والمختارات فقط يعبرن من الباب الضيق – ومن هن المختارات؟ – من يقبلن العرس الروحي مع يسوع المسيح ، فادياً ومخلصاً.. تجول المهندس/ رؤوف بنظره في أنحاء غرفة عفيفه ، لعله يعثر علي مصدر للزيت المنسكب من الأيقونة الورقية ، حتي إنه إستأذن من العم بهنام أن يزيح الأيقونة من مكانها ليري خلفها وجود توصيلات للزيت من عدمه، فلم يجد شيئاً سوي نقط زيت ساخنة لسعت يده فصرخ وسط تهليل الحاضرين وتمجيدهم لإسم الله ..غادر الصديقان عزبة بشاي علي وعد بالزيارة في الأسبوع التالي ، في رحلة قطار العودة للقاهرة تحدثا عن إنطباعتهما وما سمعاه بآذانهما عن المعجزات التي تحدث في حجرة الفتاة عفيفة ، قال رؤوف:- إن المسيحية دين محبة وسلام ، ولايحتاج لمعجزات لتثبيته ، ولكن تكرار تلك القصص عن أحداث خارقة يكشف أنه يظهر جوع حقيقى فى نفوس الأقباط لما فوق الطبيعة، وبعكس ما يظنه الناس أن هذه الاحداث تقوي عقيدتنا ، فمن ناحية أخري إذا ثبت أن بعض هذه الأحداث ملفقة أو مشبوهه، فإن ذلك يضعف الإيمان .. قال الدكتور / منير:- لقد لاحظت شيئاً في حجرة عفيفة، سأحاول التأكد منه في زيارتنا القادمة لعزبة بشاي .. فور وصول رؤوف ومنير للعزبة، طلبا مقابلة العم بهنام في محل العطارة الذي يملكه بالقرب من منزله ، سأله منير:- هل أبلغت الكنيسة يا عم بهنام بما يحدث في حجرة عفيفة ؟ – بالتأكيد ، لقد توجهت في اليوم التالي لمشاهدة تساقط الزيت إلي سوهاج وطلبت مقابلة الأسقف وحكيت له ما حدث ، فأرسل معي إثنين من الكهنة للتحقق من الأمر .. دخلا حجرة إبنتي وتأكدا من تساقط نقط الزيت من الأيقونة وإستمعا لإقوال إبنتي ثم بارك الكاهن الأكبر سناً عائلتنا وسمح لنا بإستقبال الزوار لإخذ البركة ، ووفر صندوق للعطايا للقادرين ماديا للتبرع للفقراء ، وخصص لي نسبة 10% مقابل فتح بيتي للزيارة .. سأله منير:- لقد لاحظت وجود مروحة للسقف تعمل باستمرار في حجرة عفيفة وحولها هالة ضبابية كثيفة – نعم هي من النوع القديم الذي يصدر صوت إحتكاك عالي، لذلك أقوم بتزيتها كل يوم ليلاً ونهاراً منذ أن بدأ الزوار في التوافد ، تعلم يا دكتور أن الحر لا يطاق فى محافظتنا، أليس كذلك؟!! ..أومأ الدكتور/منير رأسه موافقاً كذلك فعل المهندس/ رؤوف وسلما علي العم بهنام وغادرا العزبة في طريقهما للقاهرة .. قال منير لرؤوف :- الآن عرفنا مصدر الزيت المقدس ، هل يمكن تفسير المعجزات التي تحدث بسببه ؟؟ اجاب رؤوف :- إنه الإيمان الراسخ يا دكتور، الإيمان الصادق ، هو الذي يصنع المعجزات !!