بقلم: شريف رفعت
إنتهى يوم عملها الطويل، تتجه إلى الميدان القريب كي تستقل إحدى سيارات الأجرة بالنفر لتأخذها لبيتها، تسكن فيما يسمونه عشوائيات، لا تدري معنى الكلمة بالضبط لكن فهمت أنها تعني الشيء الفقير البائس، بهذا المعنى فإن ليس سكنها فقط لكن حياتها كلها عشوائيات.
تستقل سيارة الأجرة، ليس بها كثير من الركاب، تجلس بجوار النافذة، تنطلق السيارة و تنطلق أفكارها، يوم عملها كان مرهق، كان يوم إستحمام السيدة و الذي يحتاج لكثير من المجهود و الصبر و المحايلة، السيدة مقعدة حركتها شبه معدومة، كلامها غير واضح يشبه عواء حيوان جريح، مهمتها العناية بها يتضمن ذلك إطعامها و مساعدتها على قضاء حاجتها ثم تنظيفها و تغيير ملابسها عندما تحتاج لذلك. عليها أيضا أن تنظف المسكن و تعد الطعام للسيدة و زوجها، الزوج في أوائل السبعينات، هادئ ساكن حزين يتحرك برفق كأنه شبح، لا شك أن مرض زوجته الذي أقعدها أثر عليه. عموما عملها هذا بالمقارنة بأعمال سابقة يعتبر جيدا، فهما يحترمانها و يعاملانها كإنسانة، و هو ما كانت تفتقده في أعمالها السابقة.
تصل سيارة إلى طريق الكورنيش، تنظر إلى البحر سارحة، تسأل نفسها إلى متى تستمر وظيفتها هذه، السيدة حالتها لا تتحسن، موتها متوقع في أي وقت، سمعت مرة أثناء حديث السيد هاتفيا مع أحد أبناءه أنه في حالة الوفاة سيذهب الرجل للإقامة مع إبنه في مدينة أخرى، عندما يحدث ذلك عليها ان تبحث عن عمل آخر. شطحت أفكارها و تساءلت “لماذا لا يبقى السيد في منزله و أبقى في خدمته؟” شطحت أفكارها أكثر و تساءلت “لماذا حتى لا يتزوجني و أستمر في خدمته؟” حلم جميل أن تصبح سيدة المكان الذي تعمل فيه الآن خادمة. هي في أواسط الأربعينات ففرق السن بينهما كبير لكن هذا لا يهم بل هو في مصلحتها. إسترسلت في أفكارها، مازال شكلها معقولا، بل هو أقرب للجمال سواء ملامح و جهها أو قوامها الذي يميل للإمتلاء لكن بطريقة لا تعيبه، يحلو لها من وقت لآخر أن تنظر في المرآة لتطمئن على شكلها. إبتسمت لأفكارها الطموحة هذه، دفعها ذلك إلى المقارنة بين نفسها و بين السيدة، لا وجه للمقارنة فالسيدة واضح أنها متعلمة و بنت ناس، لكنها مُـقـَعَدَة و بائسة، لا شك أنها أحسن حالا من سيدتها، حمدت ربها على صحتها، لكن هل هذه مقارنة عادلة معقولة؟ أن تقارن نفسها بإنسانة في منتهى البؤس ثم ترضى بوضعها الفقير المذري و تشعر بأنها أحسن من غيرها، لماذا لا تقارن نفسها بالنساء العاديين كي تتحقق من مدى بؤسها، ليس هناك وقت و لا مجال في حياتها لهذه الفلسفة، عليها أن تعمل دائما بغض النظر عن كونها راضية أم متمردة، فعملها حماية لإبنتيها من الفقر المدقع و الجوع و بالتالي من الإنحراف، عملها ضرورة لتقليل بؤسهما المزمن.
وقفت عربة الأجرة لتلتقط مزيدا من الركاب، العربة إمتلأت، جلس بجوارها شاب واضح من الكتب التي معه أنه طالب، إستمرت في النظر للبحر، تجد متعة في تأمل مياهه و أمواجه، لأن معاناتها حادة و مزمنة فهي تنتهز أي فرصة للمتعة و لو بسيطة مثل الحملقة في مياه البحر و الاستمتاع بزرقته و صفاءه ثم تحلم بحياة أفضل. الشاب الذي بجوارها تلتصق فخذه بفخذها، هل حدث هذا عفوا، واضح انه متعمد، فقد إستمر الضغط رغم محاولتها الانكماش على نفسها، تنظر إليه بغضب، ينظر هو الناحية الأخرى كأنه سرحان، سألت نفسها ماذا يجب أن تفعل؟ هل تصيح به مؤنبة بصوت عالٍ؟ هي قادرة على ذلك، في الواقع الخناق في منطقتها العشوائية روتين يومي و طقس تؤديه ضد جيرانها و البياعين و كل من تسول له نفسه التعدي على حقوقها و حقوق إبنتيها و هم كثيرون، أكيد ستحرجه بصياحها و قد يؤدي الأمر إلى أن يتطاول عليه بعض الركاب بالضرب، نظرت له مرة أخرى بطرف عينها، طويل نحيل لا يتجاوز عمره العشرين فهو في سن إبنتها، يضع كتبه على حجرة و يستمر في التظاهر بالسرحان، مازالت مترددة فيما يجب أن تفعل، لكن بالتدريج بدأت متعة تتسلل لجسدها من الملامسة، قد تكون متعة محرمة لكنها موجودة و حاضرة و حقيقية، دفعها ذلك إلى التفكير في زوجها الذي مات من ثلاث سنوات و ترك لها البنتين، ترحمت عليه، لم تكن حياتها معه سعيدة و لا هينة بسبب فقرهما، لكنه كان رجلا في حياتها، حياتها التي بعده أصبحت خالية و جدباء بالإضافة لكونها فقيرة و بائسة، حياتها هذه القاسية الطاحنة و سعيها وراء لقمة العيش لها و للبنتين أنهكتها فلم تعد أنوثتها و الشعور بها أمر له أهميته فقد أهملته كليتا. نظرت للبحر ثانية تستمتع بمنظره و بنشوة الملامسة المحرمة و لا تدري ماذا تفعل، سألت نفسها ماذا عن هذا الشاب هل هو أيضا محروم جنسيا؟
في منتصف المسافة إلى وجهتها توقفت سيارة الأجرة كي ينزل بعض الركاب، تحرك الشاب للنزول، مثل المٌنَوَمة تحركت هي الأخرى كي تنزل من السيارة، عند باب السيارة و بعد أن سبقها الشاب بالنزول عَلـَقـَت كأنها تحدث نفسها على علو السيارة و صعوبة النزول، مد يده و أمسك بيدها كي يساعدها على النزول، إبتسمت له قائلة:
ـ ربنا ما يــِحـْوِجـَك.
نزلت من السيارة فردت جسمها و سألت نفسها إذا كانت ضَغْطـَة يدها على يده و إبتسامتها له كافيان، سارت خلفه عدت خطوات ثم أسرعت كي تسير بجواره