بقلم: شريف رفعت
رغم مرور أكثر من أربعة عقود على لقائي الأول به ما زلت أذكر هذا اللقاء. كنت وقتها حديث التخرج من الجامعة أبحث عن عمل، سنحت لي فرصة العمل كمدرس إبتدائي، رغم ضعف المرتب قبلت الوظيفة، كان الدافع لذلك أفكاري المثالية، أفكار تنشئة جيل جديد لا أدَرِسْ له فقط لكن و الأهم أربيه، و هل هناك أجمل و أنبل من تنشئة جيل جديد يعرف الصواب من الخطأ و يقدر الجمال و يبني البلد على أسس سليمة.
أول حصة لي مع فصل سنة أولى، أول يوم للأطفال في المدرسة، لم يكن من السهل التعامل مع ثلاثين طفلا أغلبهم في السادسة يدخلون فصلا دراسيا لأول مرة في حياتهم. وسط مشاعر الخوف و الترقب و القلق كان علي أن أريحهم نفسيا و أطمئنهم و أشعرهم أن المدرسة يمكن أن تكون مكانا جميلا. طلبت من كل طفل و طفلة أن يذكروا لي أسماءهم، بالطبع لم أطمع أن أتذكر أي من هذه الأسماء لكن مجرد سؤالي لهم و ردهم علي بداية طيبة لعلاقتنا.
كان هذا عندما رأيته لأول مرّة، سألته: إسمك إيه؟
نظر لي نظرة شك. لا أدري لماذا ينظر طفل نظرة شك لمدرس يسأله عن اسمه، كما لو كان سؤالي غير مناسب، استنتجت أن هذا الطفل قد يكون له سوابق في التعامل مع جهاز أمن الدولة، لذلك يرى أن سؤالي عن اسمه أمر مريب. كررت السؤال: و أنت يا حبيبي اسمك إيه؟
رد و مازالت نظرة الريبة و الشك في عينيه: بـَحْبـَحْ.
قلت: نعم.
كرر الرد وهو يستغرب أني لم أفهمه من المرة الأولى: بـَحْبـَحْ
قلت له: لا يا شاطر. أنا عاوز اسمك الحقيقي. اسمك في شهادة الميلاد. مش اسم الدلع.
من نظراته و ملامح وجهه أدركت أنه يعتبرني متخلف عقليا لذلك أكرر السؤال، رد مرة أخرى و هو ينظر إلي شذرا و قد نفذ صبره: قلت لك بـَحْبـَحْ.
كان في صوته بحة مميزة من كثرة البحبحة. لم أدرِ ماذا أفعل، نظرت حولي ثم سألت باقي التلاميذ آملا أن يكون بينهم جار أو صديق له يعرف اسمه الحقيقي:
ـ حد فيكم يعرف اسم زميلكم الحقيقي، مش الدلع؟
رفعت بنت يدها فسألتها، إنتِ اسمك إيه؟
ردت: فهيمة.
ـ ماشي يا فهيمة، زميلك اسمه إيه؟ الحقيقي مش الدلع.
ردت فهيمة بثقة: بـَحْبـَحْ.
قررت أن أترك الموضوع لوقت آخر و استمررت في سؤال باقي التلاميذ عن أسمائهم.
في اليوم التالي و كي أعرف حقيقة اسم بـَحْبـَحْ أحضرت كشف أسماء كل الطلبة و أخذت أنادي عليهم واحدا واحدا. الاسم الذي لم يجب صاحبه كان “بهاء حسين” و الذي هو بـَحْبـَحْ. المهم أن الولد اللعين العنيد عندما كنت أناديه باسم بهاء لم يكن يرد على ندائي. كان يتجاهلني و يتجاهل الاسم تماما. فاضطررت أنا أيضا أن أناديه بـَحْبـَحْ كي أتجنب وجع الدماغ. الولد بالإضافة لعناده كان في منتهى الغباء و الكسل، لا يؤدي واجباته المدرسية، يسرح أثناء الشرح، و لا يفهم حتى أبسط الأمور.
شككت أن الولد عنده تخلف عقلي و أنه يحتاج للإلتحاق بفصل من فصول ذوي الاحتياجات العقلية الخاصة، تحدثت في هذا الموضوع مع الأخصائي الاجتماعي للمدرسة و طلبت منه أن يقابل الولد و يختبر ذكاءه. و فعلا أمضى معه الاخصائي الاجتماعي حوالي ساعة ثم قال لي:
ـ هذا الولد غريب، إنس موضوع الاحتياجات الخاصة، هو إما مجرد طفل غبي فعلا أو أنه يتغابى.
ـ يتغابى؟
ـ نعم، البعض يلجأ للتغابي كوسيلة للتهرب من الرد على أسئلة المدرس و أداء الواجبات المنزلية. تلميذك هذا حيرني، إذا كان فعلا يتغابى فهو يتغابى بمنتهى الذكاء بحيث لم يمكنني تحديد حقيقة الأمر. هل هو غبي فعلا أم يدعي الغباء.
مضى شهران على بدء العام الدراسي. استمررت في محاولاتي لحث بحبح على التفكير و على أخذ الدروس بجدية وعلى الاهتمام بواجباته المدرسية و استمر هو في الغباء أو التغابي الممزوج بالطناش. شعرت أن الولد يستقصدني بتصرفاته هذه، كأن بيني و بينه ثأر و يريد الانتقام مني عن طريق دفعي للجنون.
بعد الشهرين و كما هي عادة المدرسة كان هناك مقابلة مع أولياء أمور التلاميذ الغرض منها مناقشة مستوى التلاميذ الدراسي. حضرت لي سيدة في منتصف الأربعينات، قصيرة، ممتلئة، ترتدي حجابا يظهر من تحته خصلة من شعرها مصبوغة بلون ذهبي فاقع، شفتاها مصبوغتان بلون أحمر فاقع و لها ابتسامة كبيرة فاقعة. قالت لي بشيء من التباهي:
ـ أنا مامت بـَحْبـَحْ.
نظرت لها بتمعن، فعلا شكلها هذا لا يمكن أن يكون لأم أي تلميذ آخر غير بـَحْبـَحْ. رحبت بها بأدب متحفظ فبادرتني قائلة:
ـ بـَحْبـَحْ بيحبك أوي يا أستاذ دايما في البيت يحكيلي عنك.
تغاضيت عن مجاملتها الكاذبة و قلت لها بهدوء:
ـ لماذا تصرين على تسميته بـَحْبـَحْ ؟ ألا تعتقدين أنه كبر على هذا الاسم؟ ثم أن بهاء إسم جميل.
اتسعت ابتسامتها و قالت بشيء من الفخر الذي لا محل له.
ـ بـَحْبـَحْ ده إسم الدلع بتاعه من يوم ما اتولد، أحب أدلعه لأنه الولد الوحيد على ثلاثة بنات. ثم إني عملت عملية بعد أن ولدته فمش حخلف تاني. عشان كده هو غالي أوي عندي. عشان كده بدلعه، ده أنا ساعات كمان أقول له بحبوحتي.
تركت موضوع اسمه و بدأت التحدث عن مستواه الدراسي، شرحت لها بكثير من الحرص و الدبلوماسية أنه يحتاج لمجهود خاص مكثف كي يعوض صعوبة فهمه للمعلومات. كأنها لم تفهم كلامي قالت لي بكثير من الفخر:
ـ بـَحْبـَحْ حبيبي نبيه أوي بس هو إللي لعبي.
كررت مرة أخرى حاجة الولد لمجهود خاص كي يعوض عدم قدرته أو عدم رغبته في الفهم و شددت على دور المنزل في هذا الموضوع. قالت لي:
ـ ممكن يا أستاذ تعطي له درس خصوصي. هو بيحبك أوي و أكيد درس معاك سيحسن من مستواه.
ـ لا يا ستي أنا لا أعطي دروسا خصوصية، ثم أن سنة أولى لا تحتاج لدروس خصوصية، كل إللي مطلوب إن إبنك يشغل مخه شوية. شجعيه إنتِ على تشغيل مخه.
انتهت المقابلة و التي لم أدر من الحوار الذي دار بيننا إذا كانت أم بـَحْبـَحْ غبية أم أنها هي الأخرى تتغابى.
إنتهى العام الدراسي. كانت فكرة الهجرة تراودني منذ فترة، كان علي أن أتخذ قرارا حاسما هل أهاجر أم أبقى في مصر. لم يكن القرار سهلا فكل اختيار له ميزاته و عيوبه. ما حدث أني حلمت حلما حسم قراري، قد يكون ذلك غريبا أن شخصا متعلما مثقفا يتأثر بحلم فيتخذ قرارا مصيريا بناء عليه، لكن هذا في الواقع ما حدث، كان الحلم أني في بداية العام الدراسي الجديد. أقف أمام السبورة أكتب عليها التاريخ و أنوي الترحيب بالتلاميذ في بداية عامهم الدراسي، عندما أستدير لمواجهتهم أجد كل الأولاد قد تحولوا إلى بحابيح أما البنات فقد تحولن إلى بحبوحات. نفس شكل بحبح و ملامح وجهه الغبية و لماضته. صحوت من النوم و قد قررت الهجرة.
تمر السنون. أربعة عقود، أعيش حياتي في بلدي الجديد بلد مهجري. أعمل، أتزوج، أنجب و أتقاعد. أثناء هذه العقود الأربعة اعتدت على زيارة مصر كل بضعة سنين. في زيارتي الأخيرة منذ أربعة سنوات تقريبا أجد البلد في شبه مهرجان. كانت هناك إنتخابات رئاسية ستجرى بعد عدة أيام من وصولي، الإعلام يناقش الانتخابات التي يعتقد الكثير أنها محسومة قبل إنعقادها. لافتات في كل الشوارع تعلن التأييد للرئيس الحالي و تبايعه على فترة رئاسة ثانية. لفت نظري لافتة بالقرب من منزلنا مكتوب عليها “نبايع سيادة الرئيس على الرئاسة مدى الحياة”. تحت هذه العبارة مكتوب اسم صاحب المبايعة “عضو مجلس الشعب عن الدائرة بهاء حسين المحامي الشهير ببـَحْبـَحْ “. بـَحْبـَحْ عضو مجلس الشعب؟ غريبة و الأكثر غرابة أنه مفروض أن يعرف أنه تبعا للدستور لا توجد رئاسة مدى الحياة فلماذا إذا هذا النفاق. أسأل أخي عن موضوع بـَحْبـَحْ و أخبره أنه كان أحد تلاميذي في السنة الوحيدة التي عملت فيها مدرسا. أسأله كيف وصل لعضوية مجلس الشعب رغم غبائه أو تغابيه، يرد أخي:
ـ هذا بالضبط السبب في عضويته لمجلس الشعب.
ثم يضيف:
ـ لقد اعتاد أن يعطي معونات عينية للفقراء من أهل الدائرة الانتخابية لذلك أعطوه أصواتهم و نجح في الانتخابات.
أعود لبلد مهجري و أنا سعيد لأني تسليت بمتابعة سيرك الانتخابات في مصر.
أربعة أعوام أخرى تمر. أفكر في زيارة مصر في الشتاء القادم، أتصل بأخي هاتفيا لمناقشة الموضوع. يخبرني بأن الانتخابات الرئاسية الجديدة على الأبواب. و أني سأحضرها كما حدث في الزيارة السابقة. أسأله عن أخبار الانتخابات لأني لا أتابع أخبار البلد حيث أرى أن متابعة الأخبار ستسبب لي ارتفاع ضغط دم قد يودي بحياتي.
يخبرني أخي أن بـَحْبـَحْ قد رشح نفسه في الانتخابات الرئاسية و أن المحللين السياسيين و الإعلام يرون أن فرصة نجاحه كبيرة.
أسأله و أنا مصدوم:
ـ بـَحْبـَحْ مرشح نفسه لرئاسة مصر؟ و فرصة نجاحه كبيرة؟ ليه؟
يرد أخي كأنه عليم ببواطن الأمور.
ـ لأن عنده كاريزما.
أصيح مفجوعا:
ـ بـَحْبـَحْ عنده كاريزما؟ إزاي؟
يرد أخي بهدوء:
ـ ده كفاية إسمه، بـَحْبـَحْ ، إسم كله كاريزما.
أنهي المكالمة في الحال و ألغي فكرة زيارتي لمصر.