بقلم: كلودين كرمة
كنت صغيرا فغدوت كبيرا ؛ كنت قويا فأصبحت ضعيفا؛ كنت سعيدا فبدوت مهموما ؛ كنت هادئا فصرت مرتعدا ؛ كنت شجاعا مقداما ولكنى الآن أحتسب لخطواتى؛ كنت سندا قويا فأمسيت أحتاج إلى معين ؛ كنت مدبرا لسائر الأمور ولكن الآن تابعا للظروف ؛ كان صوتى عاليا وصارخا فى وجه الشر ولكنى بديت اتحاشى المواجهات؛ مع انى الآن اكثر خبرة واشد بأسا وأوفر حكمة ومالا! ولكن يبدو ان ما اكتسبته على مر الزمان هو سبب حيرتى وقلقى. لانى أصبحت اكثر خبرة ، أصبحت لا اصادق الكثيرين ؛ ولا أصادق إلا بحذر ، ولا أصدق كل ما يقال ، ولا اعتمد على العهود والوعود ؛ لأن فى كثير من الاحيان تكون وليدة اللحظة ، فرضتها الظروف وحين تنتهى اللحظة تنتهى معها تلك الوعود بل ويختفى صاحبها … وأما الحكمة جعلت منى انسانا يحرص على حاله ويبتعد عما يضره ، وأصبحت أكثر حذرا وحتى أصدق القول ، لا أجازف حتى لا أخسر ما خسرت من اجله أجمل أيامى و ضحيت فى سبيله بالكثير من متع الحياة و بهجة الشباب.. فى الصغر كنت أرفض الخيال وأتشبث بالواقع بما يحتويه حلوا كان أم مرا ، أما فى كبري فصرت انسج لنفسى نسيج جميل من وحى خيالى لأنى لم اعد احتمل ثقل الأحزان. فى زمن مضى كنت لا أخشى قسوة الأيام وخيانة الأصدقاء وهجر الأحباب أما فى زمانى هذا لا احتمل حتى مشاهدة لقطات الخيانة والغدر.. كنت اتحدى الصعاب وأحاول إثبات الذات وأصر على النجاح والتميز ومن ثم اكتفيت فلم يعد لدى القدرة فاكتفيت بما أحرزته وأظل أتحاكى به وأفتخر .. كنت أرفض وأشجب التعصب والتحزب و أحارب الفساد على الأقل فى ميدانى ولا أخشى العاقبة .. أما فى هذه الأيام ، لتفشى الفساد والخوف من الفتن فلم اعد اهتم فالشر ساد وعمت الفوضى.. وما الحل و الوضع أصبح مأسوى : فالأخلاق فى انحدار والاستقامة أصابها مرض عضال ، والشرف أصبح له مقاييس مخلة ، والنجاح لا يتحلى بالشرف والانضباط.. فالأمر وعكسه كل سواء !! والعبرة بالنتائج ، والغاية تبرر الوسيلة ، وسيطر قانون الغاب ، وغاب الحق وغاب العقل وكلها أصبحت ردود أفعال ، والكل يتخبط فى طرقات سادها الظلام ، ظلام الفكر وتخلف المعتقد وجمود النظريات. يا لى من مخلوق بائس أمضى أياما وأياما يضع حجر الأساس وقد شخت ولم يكتمل بعد البناء. لقد خارت قوتى وهبطت عزيمتى من ويل ما لقيت ومما رأت عيناى.
وهل لى فى العمر بقية حتى أكمل ما بدأت ؟ ام سيشمت الشامتون بى ويستهزئ من اتبع الاعوجاج وإعتلى الجبال وتحصن بها من اهوال هذا الزمان. ومع كل هذا يتبقى لدى قليل من الأمل يكفى ليحمينى من شر الزمان ، والكثير من الإيمان يُحيى فى قلبي حب طاهر ووعد صادق بأن ابقى إنسان و أنتصر على الأهواء وأسعى مادمت حيا لإحياء القيم ولإنجاز المهام.. من يساندنى فله كل التقدير والاحترام ومن يتبرأ منى و يجد الف حجة ليبتعد ومن يستنكر الأخلاق فله دينه ولى دينى .. فليبتعد وليذهب كل فى طريقه لأنه مهما احاط بى الظلام فسأظل شمعة تضيئ بنورها البسيط الطريق حتى لا يتعثر الصغار ومهما اتعبنى المعاندون فلن اميل عن الحق ولن استجيب إلا لنداءات السلام .. “فما اوسع وأرحب الطريق الذى يؤدى الى الهلاك “.. و “ماذا ينتفع الإنسان لو ربح العالم كله وخسر نفسه.”
أنا وإن كنت من زمن مضى ، لكنى افتخر بأنى أنتمى إليه، ومازال عبيره ينتشر فى الأجواء ، ومازال جماله يغطى قبح هذا الزمان.