بقلم: د. حسين عبد البصير
أوزيريس
ويعتبر المعبود أوزيريس أهم وأشهر ورأس مجمع الآلهة المصرية القديمة. وظهرت عبادته في عصر الأسرة الخامسة عندما ذُكر اسمه في «متون الأهرام» الخاصة بالملك «ونيس» آخر ملوك الأسرة، وذُكر أيضًا في مقابر أشرافها. واعتبره المصري القديم إلهًا خالصًا له القدرة على الخلق والإبداع والابتكار وتم تمثيله كرب للعالم الآخر وسيد للموتى ومن ثم الأبدية. وبرغم اعتقادهم بأن كل المعبودات عرضة للموتى فيما عدا أوزيريس، فقد تعرض أوزيريس لمحاولة غدر وخيانة من قبل أخيه الشرير «ست» الذي قتله ووزع أجزاء جسده عبر الأرض المصرية. ونجحت أخته وزوجته الوفية إيزيس في تجميع أجزاء جسده وإعادته للحياة مرة أخرى، وفقًا للأسطورة الأوزيرية.
وإذا حاولنا تحديد مكان عبادة أوزير الأول، يصعب علينا ذلك. لكنه ارتبط بهليوبوليس (عين شمس حاليًا) وجاء ذكره في «متون الأهرام» مع إيزيس وست ونفتيس كواحد من أبناء الرب «جب» (رب الأرض) والربة « نوت « (ربة السماء) وكواحد من الآلهة التسعة (التاسوع) العظيم الخاصة بمدينة عين شمس. وتشير النقوش في هليوبوليس إلى أن أوزيريس تم تصويره مع بقية أفراد التاسوع المقدس. ولعل أهم مكانين ارتبط بهما الإله هما: أبيدوس وأبوصير. وفي أبوصير، اتحد مع معبودها القديم وأخذ كثيرًا من صفاته. وفي أبيدوس، اتحد مع معبودها القديم «خنتي إمنتيو «، كما سلف القول، واتحد كذلك مع ملوك الموتى. وأصبح سيدًا للغرب، وحاكمًا لعالم الموتى، وإمامًا للغربيين أي الموتي الذين كان يتم دفنهم في الغرب عادة. وتم تصوير الإله في هيئة آدمية وكانت له شعر مستعار ولحية يخصان المعبودات. وصُور أيضًا على شكل مومياء ذات أرجل متصلة ملتصقة ببعضها البعض إشارة إلى طبيعة الإله الجنائزية وإرتباطه بعالم الموتى. وظهر في عصر الدولة الوسطى بالتاج الأبيض فوق رأسه إشارة إلى أصله الصعيدي. وارتدى كذلك فوق رأسة تاج يُعرف بـ»الآتف». وارتبط الرب أوزيريس بالزراعة والبعث والإخضرار والهناء وإعادة إخصاب التربة المصرية. وكان له الدور الأعظم في محكمة الموتى في العالم الآخر. واتحد مع عدد مع المعبودات الأخرى المهمة في مصر القديمة.
البحث عن مقبرة أوزيريس
أعتقد علماء المصريات أن مقبرة أوزيريس أما أن تكون في واحد من المكانين المهمين بالنسبة للرب أوزيريس: أبوصير أو أبيدوس، أو على الأقل يحتويان على أهم أجزاء جسده. ويعتقد أن أبيدوس تحتوي على رأس الإله أوزيريس. وفي أبيدوس، يوجد مكانان مناسبان لذلك. الأول هو الأوزيريون الذي بناه الملك سيتي الأول من ملوك والأسرة التاسعة عشرة وعصر الدولة الحديثة. والثاني هو مقبرة الملك «جر» من ملوك الأسرة الأولى.
إملينو في أم الجعاب
وتمتد جبانة أبيدوس خلف القرية في الصحراء. وقُسمت إلى قسمين: القسم الشمالي الغربي وعرفة الأثري الفرنسي أوجست ماربيت باشا بـ»الجبانة الشمالية»، والجزء الجنوبي الشرقي ويعرف بـ» الحبانة الوسطى».
وتقع جبانة أم الجعاب (أو «أم القعاب») على معبدة حوالي 1.7 كم من الحافة الزراعية. وعُرفت بهذا الاسم لوجود كميات هائلة من الفخار بها. وتحتوي على آثار من فترات تاريخية متعددة. وبنى ملوك الأسرتين الأولى والثانية مقابرهم بها. وأصبحت مكانًا للحج وتقديم التقدمات ونذر النذور علىاعتبار أن إحدى تلك المقابر هي مقبرة أوزيريس، وتحديدًا مقبرة الملك «جر». وتمتلئ أم الجعاب بالفخار بكثرة، وخاصةً فوق مقبرة الملك «جر». وبدأ العمل من فوق المقبرة الأثري الفرنسي» إميل إملينو» لإعادة اكتشاف الأوزيريون عام 1898. وعندما بدأ موسم حفائره الأول لفت نظر إملينو كثرة الفخار المنقوش باسم أوزريريس فوق مقبرة الملك «جر». وعثر أثناء حفائره على تمثال صغير لأوزيريس مما أكد ظنه بأن مقبرة الملك «جر» هي مقبرة أوزيريس. وبعد أربعة أيام من الحفائر، ظهرت جدران حجرات تشكل مقبرة تشبه جميع مقابر المنطقة. وكانت مكونة من عدد من الحجرات. وظهرت حجرة الدفن على شكل مربع تقريبًا. وظهرت مقصورة خشبية مركزية، وكانت محاطة من ثلاث جهات بمخازن من الطوب اللبن. وكان يحتوي بعضها على بعض بقايا الأثاث الجنائزية مثل جرار التخزين الضخمة، وكان بعضها فارغًا من أي شئ أو يحتوي على لوحات أثرية صغيرة. وربما تم فرش أرضية تلك الحجرات الخشبية الرئيسية بالخشب. وأتت النيران على المقبرة بأكملها. وحدث ذلك بين الأسرة الثانية وقبل بداية عصر الدولة الوسطى. وأثناء قيام رجال إملينو بتنظيف الجزء الغربي من المقبرة، عثروا على تمثال كبير من البازلت الأسود يمثل الرب أوزيريس راقدًا على نعشه أو سريره على جانبة الأيسر، وتم تشكيل جانب السرير على شكل أسدين. وكانت الصقور تحرس (رمز الرب حورس) كل جانب من جوانب السرير. وترقد الربة «إيزيس» فوق الأسدين حتى تشبع نفسها وتحمل بالطفل الصغير حورس من أبيه أوزيريس. وفي إحدى الحجرات على الجانب الشرقي من المقبرة، عثر إملينو على جمجمة نسبها إلى أوزيريس بناءً على النذور التي وجدها على سطح المقبرة من لوحات وغيرها. واعتقد أن مدخل المقبرة الذي كان على شكل سلم يوصل إلى حجرة الدفن التي تمثل مقام الرب العظيم كما ذكرت النصوص عن أوزيريس. وبالرغم أن فحص الجمجمة أثب أنها صغيرة وربما كانت لامرأة، عارض إملينو هذا الرأي وقال إن أوزيريس ربما كان صغير الرأس بناءً على ظهوره في تماثيله. وادعى أيضًا أن المقبرة كانت المستقر الأخير لكل من المعبودين حورس ابن أوزيريس وأخيه الشرير ست!!
وابتداءً من عام 1899، بدأ العالم الأثري الانجليزي الشهير السير وليم فلندرز بتري مؤسس علم المصريات الحديث حفائره في أبيدوس. وأثبتت حفائره أن ما كان يعتقد إملينو أنه مقبرة أوزيريس ما هي إلا مقبرة الملك «جر». وأوضحت حفائره في موسمها التالي عام (1900-1901) أنه تم تعديل مقبرة الملك «جر» في تاريخ ما متأخر كي تكون مقبرة لأوزيريس، وحتى يكون بها سرير أوزيريس المنحوت والمقام فيها والذي عثر عليه إملينو، وأن السلم المؤدي إلى مدخل حجرة الدفن أضيف كي يكون مناسبًا لزيارة الحجاج لأبيدوس.
الحج إلى أبيدوس
وبداية من النصف الثاني من الأسرة الثانية عشرة على الأقل، بدأ الحجاج يتوافدون على أبيدوس من جميع أنحاء مصر القديمة كي يشهدوا الاحتفال السنوي بمعبودهم الأكبر أوزيريس. ومن لوحة الموظف الكبير « إيخرنفرت» من عهد الملك سنوسرت الثالث والمحفوظة في متحف برلين، نعرف ماذا كان يحدث في هذا الاحتفال. ويقول «إيخرنفرت»: «فعلت كل شئ طلبه جلالته، ونفذت أمر سيدي من أجل أبيه، أوزيريس-خنتي إمنتيو، سيد أبيدوس، عظيم القوة، الموجود في إقليم ثنى. وكان الابن المحبوب من أبيه أوزيريس-خنتي إمنتيو. وزينت مركبه الخالد العظيم، وصنعت لها مقصورة تظهر وتشرق بحسن وبهاء خنتي إمنتيو، من الذهب، والفضة، واللازورد، والبرونز، وخشب السدر. وصاحبت المعبودات في رحلتها. وصنعت مقاصيرها المقدسة من جديد. وجعلت الكهنة يمارسون واجباتهم بحب، وأن يعرفوا طقوس كل يوم، عيد رأس السنة. وسيطرت على العمل فوق المركب، وزينت المقصورة وصدر سيد أبيدوس باللازورد والفيروز، والشفاه الإلهية بكل حجر كريم. وغيرت ملابس الإله في حضوره… ونظفت ذراعه وأصابعه. ونظمت خروج الرب «وب واووت»، فاتح الطرق العظيم، عندما قرر الانتقام لأبيه. وطردت المتمردين من المركب. وهزمت أعداء أوزيريس. واحتفلت بهذا الخروج العظيم. وتبعت الإله عند ذهابه. وجعلت المركب يبحر. وأدار الدفة الرب جحوتي (رب الحكمة). وأمددت المركب بمقصورة وبالزينات الجميلة الخاصة بأوزيريس عندما تقدم إلى منطقة «باقر» (منطقة في أبيدوس). وأرشدت الإله للطرق التي تقوده إلى مقبرته في منطقة «باقر». وانتقمت لـ»ون نفر» (اسم من أسماء «أوزيريس») في هذا اليوم ذي القتال العظيم، فطردت كل أعدائه من على الشاطئين. وجعلته يتقدم في مركبه العظيم. وأخرجت للناس جماله. وجعلت أصحاب المقابر في الصحراء الشرقية سعداء. وشاهدوا جمال المركب وهي تتوقف بأبيدوس، عندما أحضرت أوزيريس-خنتي إمنيتو إلى قصره، وتبعت الإله إلى بيته، وقمت بتطهيره، وأوسعت له مقعده، وحللت له كل مشكلات إقامته بين حاشيته المقدسة».
وتم تحديد موقع مقبرة أوزيريس في منطقة «باقر» التي يبدو بوضوح أنها ليس أكثر من منطقة أم الجعاب نفسها. وفي وقت ما من عصر الدولة الوسطى، تم اعتبار إحدى المقابر الملكية القديمة على أنها مقبرة الإله أوزيريس. غير أن هذا الاقتراح لم يكن له ما يدعمه. والأكثر منطقية أن تكون جبانة أم الجعاب هي جبانة ملوك مصر الأوائل، ومن باب أولى أن أوزيريس تم دفنه بها. واعتبرت مقبرة الملك «جر» مقبرة أوزيريس؛ لوجودها في مقدمة الجبانة، وهذا أنسب للحجاج حتى يمارسوا احتفالهم السنوي بمعبودهم أوزيريس. ومع نهاية الأسرة الثانية عشرة وبداية الأسرة الثالثة عشرة، زادت مساحة الجبانة بشكل كبير وامتدت حوالي «1.5 كم» إلى الجنوب الغربي من قرية كوم السلطان الحالية. وأصبحت أبيدوس المركز الرئيسي لعبادة الرب أوزيريس. وأخذت عملية الحج أثناء الحياة والموت تزداد بشكل كبير. ورغب كثير من المصريين في أن يتم دفنوهم في أبيدوس بجوار معبودهم الأكبر أوزيريس، سيد الأبدية والعالم الآخر حتى ينعموا برفقته في العالم الآخر أو على الأقل كانوا يتركون أشياءهم التذكارية في هذا المكان المقدس بين معبد أوزيريس ومقبرته. وهكذا تطور مقام أوزيريس من مكان بسيط لا يحتوي إلا على لوحات نذرية بسيطة إلى مزار كبير رمزي لا ينقصة سوى وجود مومياء المعبود أوزيريس. وتم إقامة الآثار واللوحات النذرية حول ضريح معبود المصريين الأكبر المعبود أوزيريس أثناء زيارتهم السنوية لأبيدوس كي يشهدوا أو يشاركوا في الاحتفال ببعث وقيام أوزيريس بعد أن يتركوا آثارهم فوق مقبرة الملك «جر» التي اعتبرت مقبرة أوزيريس التي تم دفنه بها.
أوزيريون سيتي الأول
والأوزيريون هو اصطلاح استخدمه الإغريق للإشارة إلى المقاصير الخاصة بالرب أوزيريس. وكان العالم بتري أول من أطلقه من علماء المصريات على ذلك المبنى الموجود خلف معبد الملك سيتي الأول بأبيدوس حين اكتشفه في شتاء العام 1901 -1902. واكتمل تنظيفه العام 1926. ويقع خلف المعبد الجنائزي الخاص بالملك سيتي الأول وعلى نفس المحور وله نفس التخطيط والنقوش ويشبه مقبرة ملكية. ويدخل إليه من خلال ممر طويل منحدر. والحجرة الرئيسية به عبارة عن قاعة كبيرة تشبة الجزيرة. وتحيط بها المياه من كل جانب. وفي قلبها، يقع التل الأزلي الذي يرمز إلى إعادة بعث وقيام أوزيريس. وربما تم دفن أوزيريس في هذا المكان. ويحمل سقف هذه الحجرة عدد من الأعمدة الجرانيتية الضخمة، وبقي وسط سقف الحجرة مفتوحًا. وكانت المقبرة مغطاة في السابق بتل أرضي محاط بأشجار على مسافات منتظمة. وتمثل تلك المياه الأزلية وإعادة عملية الخلق من العدم والمحيط الأزلي المعروف باسم «نون» العظيم عند المصريين القدماء. وهناك حجرة أخرى لها سقف منحدر بنقوش ملكية تشبة تابوتًا حجرياً. والنقوش غير مكتملة، ويغطي سطوح الممرات الداخلية فصول من كتاب البوابات (من كتب العالم الآخر عند المصريين القدماء)، والأجزاء الخارجية بعض فصول من كتاب الموتى. بالإضافة إلى بعض المناظر التي تمثل سيتي الأول والملك مرنبتاح. وتاريخ المبنى مختلط. ويعود في الأصل إلى الملك سيتي الأول. وأكمل نقوشه حفيدة الملك مرنبتاح. واستمرت زيارة هذا الأوزيريون إلى القرن الثالث الميلادي كما ذكر المؤرخ «استرابون».
أوزيريون أهرامات الجيزة
والشئ الغريب حقًا ما تم اكتشافه أخيرًا بهضبة أهرامات الجيزة بالقرب من الطريق الصاعد الخاص بالملك خفرع (من ملوك الأسرة الرابعة وصاحب الهرم الثاني بهضبة الجيزة) حيث تم العثور على بئر عميق مكون من ثلاثة مستويات. والمستوى الأول والثاني منها عبارة عن فجوات في الجدار بها تابوت مكسور، أو غطاء تابوت. ولكن الشئ المهم هو المستوى الأول والأخيرالذي به مياه كثيرة لعلها المياه الأزلية التي بزغ منها خلق الكون. وتحيط المياه بتابوت يستقر في مربع حجري. ويحمل سقف تلك الحجرة أربعة أعمدة حجرية ضخمة.
فهل تم دفن جثمان الرب أوزيريس في هضبة أهرامات الجيزة؟ وهل كان الأوزيريون، مقام أوزيريس في الجيزة؟ أم أن هذا المقام هو أحد مقامات الرب أوزيريس العديدة؟
وفي النهاية، أقول إن قصة الرب أوزيريس هي قصة مثيرة مثل حياته وموته ودفنه وأسطورة بعثه وحمل زوجته المخلصة إيزيس منه في طفله وولي عهده الرب حورس. إن هذه هي قصة الأسطورة وصناعتها في مصر الفرعونية مبدعة الآثار والمليئة بالكثير من الغموص والسحر والجمال الأسرار.