بقلم: شريف رفعت
أحمل حفيدي ذا العشرة أشهر كي أريه لجدتي ذات المائة و عشر سنوات، أول مرّة تشاهد جدتي حفيدي، دخلت عليها في حجرتها، أراها ترنو من النافذة فأرنو بدوري إليها، ترى فيما تفكر هذه المرأة الغير عادية، صحتها على مايرام، ذاكرتها حديدية، صوتها واضح حازم لا أثر للوهن و العجز به، شعرها ناصع البياض ضفرته بنفسها في ضفيرتين طويلتين، في تناقض صارخ مع تجاعيد و جهها عيناها كبيرتان ثاقبتان ما زالتا تحتفظان برموشها الطويلة فلم يصب الكلل نظرها، مات جميع أولادها و بناتها، أيضا العديد من أحفادها و ها هي هنا كأنها الأبدية نفسها شاهدة على الحياة بحلوها و مرها.
اقتربت منها و قلت لها:
ـ جدتي، هذا حفيدي، اسمه آدم، عمره الآن عشرة أشهر.
يشرق وجهها المجعد بابتسامة حلوة، تحمله و هي تبسمل و تدعو له، ينظر لها الصغير في اندهاش و فضول، منظرهما غاية في الطرافة، كل منهما ينظر للآخر متطلعا، تقربه من وجهها و هي تناغيه فيمد أصابعه الصغيرة محاولا خمش و جهها، تضحك فتتسع عيناه الجميلتان متعجبا، منظرهما يحث على الفلسفة، قد يطلق البعض على المشهد “لقاء الأجيال” أو “الراحل و الآتي” أو أي تعبيرات فلسفية ماهرة، أنا أرى المشهد طريفا و إنساني و هذا يكفي.
بعد فترة آخذه منها كي أتركها تستريح تقول لي قبل انصرافي بصوت قوي واضح مؤثر:
ـ سيكون حفيدك مباركا، سيكون زينة الرجال.
أرد:
ـ ربنا يحفظك يا جدتي، و يديم عليكِ الصحة.
في المساء أجلس بمفردي أقرأ، في سكينة الوحدة و الهدوء أترك الكتاب جانبا و أستعيد ما قالته جدتي “سيكون حفيدك مبارك، سيكون زينة الرجال”.
قالتها بطريقة قوية قدرية مسرحية بعض الشيء، كما لو كانت إحدى الساحرات في مسرحية من مسرحيات شكسبير، أو إحدى شخصيات أسطورة إغريقية مؤثرة. أبتسم متذكرا أن الحاجة جدتي قالت نفس الكلمات بالضبط بنفس الطريقة المؤثرة عن ابني عندما رزقت به من حوالي ثلاثين عاما، أذكر أيضا أنها قالت عني في طفولتي نفس الكلمات مرارا و بنفس الطريقة المؤثرة لأبي و أمي. ما حكاية هذه العجوز و لماذا تغدق على أفراد أسرتنا هذه النبوءات بسهولة كما لو كانت عالمة بأسرار الغيب. أنا و ابني نشأنا كشخصين عاديين لسنا مباركين و لسنا زينة الرجال، أنا إنسان عادي، أعيش حياتي في سلام بقدر الإمكان أؤدي واجبي على أكمل وجه قدر استطاعتي، لا أؤذي أحد إطلاقا، أحاول مساعدة الغير كلما أمكنني ذلك، ابني أيضا ـ و كأن هذه الصفات تسري في ﭼـينات الأسرة ـ أسلوب حياته مماثل لأسلوب حياتي، يؤدي عمله على أكمل وجه، لا يؤذي أحدا، يساعد الغير ببساطة و بدون ضجيج و لا استعراض.
بهدوء و ببطء تسللت الحقيقة لمداركي مع صدى كلمات جدتي، “مبارك، زينة الرجال” أدركت أن العجوز كانت على حق في نبوءتيها السابقتين، دعيت الله أن تصدق نبوءتها لحفيدي.