بقلم: السفير السابق للبنان في كندا / مسعود معلوف
عشية الإجتياح الروسي لأوكرانيا، ألقى الرئيس فلاديمير بوتين خطابا لمدة ساعة تقريبا، ركز فيه على أن أوكرانيا لم تكن في الماضي دولة مستقلة، بل هي جزء من روسيا، وأن انحلال الإتحاد السوفياتي هو الذي أدى الى إعطائها الإستقلال، وفي اليوم التالي، وصف اجتياح الجيش الروسي لأوكرانيا بأنه “عملية عسكرية خاصة”، ما يعني أن الجيش الروسي سيدخل أوكرانيا لتنفيد مهمة معينة وسريعة فسرها كثيرون بأنها إزاحة الحكم “النازي” وتسليم البلاد لحكومة موالية لروسيا.
في بداية الإجتياح، إعتقد الجميع، روسا وأميركيين وغربيين، أن “العملية العسكرية الخاصة” ستنتهي بسرعة نظرا لأهمية الجيش الروسي بالمقارنة مع القوة العسكرية الأوكرانية، لدرجة أن الرئيس الأميركي جو بايدن عرض على الرئيس الأوكراني فولودمير زيلينسكي تسهيل خروجه من البلاد، كما جرى البحث في الغرب بتشكيل حكومة أوكرانية في المنفى.
ولكن الصمود الذي أظهره الأوكرانيون بقيادة رئيسهم في مواجهة الإجتياح الروسي حمل الدول الغربية بقيادة الولايات المتحدة على تقديم الدعم العسكري والإقتصادي والإنساني لهم بشكل غير مسبوق، كما حمل بوتين على تحويل استراتيجية الحرب من عملية عسكرية سريعة التنفيذ الى قضم تدريجي للأراضي الأوكرانية، وقصف المدن الكبرى وتهجير المواطنين الأوكرانيين، معلنا أهدافا وشروطا يصعب على الجانب الأوكراني القبول بها.
لقد اتهم البعض الولايات المتحدة بجر أوكرانيا باتجاه حلف شمال الأطلسي (ناتو) ولكن الواقع هو ان الثورة التي قام بها الاوكرانيون عام 2013 كانت في الأساس ثورة أوكرانية بدعم أميركي للخروج من النفوذ الروسي والإقتراب من الغرب حيث طالب الأوكرانيون بالإنضمام الى الناتو، وقد أدخل هذا المسعى في الدستور الجديد، ومن ثم حصلت انتخابات رئاسية مرتين، وفي كل مرة كان من ضمن برنامج المرشح الذي فاز التأكيد على الرغبة في الإنضمام الى الناتو.
ازاء هذا الواقع الأوكراني المستجد، وبدل أن يعالج الرئيس بوتين الموضوع بصورة ثنائية عبر التفاوض مع أوكرانيا والضغظ عليها بالطرق التي يراها مناسبة، حتى لو اقتضى الأمر التهديد، توجه الى الولايات المتحدة وحلف الناتو، معلنا شروطا غير مقبولة مثل الإلتزام الخطي بعدم قبول أوكرانيا عضوا في الحلف وعدم تقدم الناتو شرقا، بالإضافة الى تفكيك المعدات والتجهيزات العسكرية التي وضعت في الدول المحاذية للحدود الغربية لروسيا والتي انضمت الى الناتو منذ عقدين من الزمن، ومن هذا المنطلق، يرى كثيرون أن بوتين هو الذي استدرج الولايات المتحدة والدول الغربية الى الأزمة الأوكرانية التي تكاد تتسبب بحرب بين روسيا بقيادة بوتين والغرب بقيادة بايدن.
عندما كانت روسيا تحشد قواتها على حدودها مع أوكرانيا قبل الإجتياح، وبوتين يفرض شروطه التعجيزية على الغرب، والولايات المتحدة تهدد بفرض عقوبات قاسية في حال اجتياح أوكرانيا، ربما كان من المفضل في حينه نزع فتيل الحرب المرتقبة عبر إعلان الناتو عدم قبول أوكرنيا لأنها ليست جاهزة لتكون عضوا في الحلف، وبذلك كان يمكن للرئيس بوتين سحب جنوده وإعلان انتصاره بعدم السماح لاوكرانيا بالتوجه غربا، كما أن الناتو كان يستطيع عندئذ إعلان انتصاره بأنه تمكن من حماية أوكرانيا من اجتياح روسي، وبذلك يربح الجميع ولا يخسر أحد. ولكن منطق القوة والحرب سيطر على منطق التفاهم والسلم.
لقد حاول بوتين خلق بعض الإنشقاق بين الولايات المتحدة وأوروبا وكذلك في الداخل الأوروبي، ولكنه لم ينجح في ذلك إذ توحد الموقف الأوروبي الى حد بعيد وبقيادة أميركية، كون الدول الأوروبية شعرت، بعد اجتياح أوكرانيا، أن الخطر اقترب من أبوابها، فسارعت الى التعاون مع بعضها البعض ومع الولايات المتحدة، فارضة العقوبات القاسية على روسيا وعلى القيادات الروسية، ومقدمة شتى أنواع الدعم لأوكرانيا.
نظرا لوجود مراسلين لمختلف وسائل الإعلام العالمية في معظم المناطق الأوكرانية، تمكن الجميع خارج روسيا من معرفة الصعوبات التي تعرض لها الجيش الروسي في تقدمه، والأضرار الجسيمة التي تصيب المدن الأوكرانية، وما يرافق هذا الدمار من خسائر بشرية ونزوح إذ زاد عدد اللاجئين خارج الحدود الأوكرانية عن ثلاثة ملايين لاجئ، والعدد يتزايد يوميا مع استمرار الهجوم والغارات والقصف الجوي والمدفعي والصاروخي الروسي.
ولكن الأمر بات مختلفا في الداخل الروسي إذ صدر قانون يقضي بالسجن لمدة تصل الى خمسة عشر سنة لمن يبث أنباء مغايرة لما يبثه الإعلام الرسمي، ما اضطر وسائل الإعلام الغربية الى مغادرة روسيا، كما أنه تم قمع الإحتجاجات والتظاهرات بالقوة ومنعت وسائل التواصل الإجتماعي حيث بات المواطن الروسي لا يعرف عن الحرب التي يشنها جيشه في أوكرانيا والخسائر الروسية والدمار الناجم عن هذه الحرب إلا ما يبثه الإعلام الروسي الرسمي.
على هذه الخلفية ازدادت حدة التوتر بين روسيا والولايات المتحدة لدرجة أن الرئيس بايدن تجاوز كل الحدود عندما وصف الرئيس بوتين بأنه مجرم حرب، ما يعني أن الجلوس معه أصبح من الأمور شبه المستحيلة، ويبدو أن أوكرانيا أصبحت الآن بين المطرقة الروسية والسندان الأميركي، حيث القصف الروسي يدك مضاجع السكان، والدعم الأميركي لأوكرانيا يشجعها على الصمود مع كل ما يجلبه ذلك من ويلات ودمار وخسائر بشرية.
الوضع كما يبدو عند كتابة هذه السطور سيستمر لفترة إذ أن بوتين ماض في حملته دون تراجع، وبايدن ماض في تشجيع أوكرانيا وفرض العقوبات القاسية على روسيا لإضعافها، آملا في حصول تغيير في القيادة الروسية نتيجة لهذه العقوبات، وتستمر أزمة الأوكرانيين، بين الروس والأميركيين، الى أن ينجح بعض المصلحين، أمثال تركيا أو الصين.