بقلم: ابراهيم شير
كاتب واعلامي سوري
بعد انهيار الدولة العثمانية وزوال احتلالها عن الدول العربية، بدأت هذه الدول السعي نحو “الديمقراطية” هذه الكلمة التي إلى اليوم يحكم باسمها الشارع العربي من مشرقه إلى مغربه لكن دون أن يلمسها أو يشعر بها حتى. ديمقراطية يمكن أن نسميها بالمغيبة لأن وجودها وعدمه واحد، فوسائل الإعلام تمجد بالزعيم والشارع يهتف باسمه وصناديق الاقتراع تغلق وتفرز قبل أن تبدأ الانتخابات حتى يفوز بها بنسبة 99.9 بالمئة. هذه الديمقراطية بدلا من أن تكون مصدر أمان للمواطن تحولت إلى أزمة ثقة بين الدولة والشارع، ما أدى في نهاية الأمر إلى فقدان المواطن العربي لإحساس المواطنة داخله، وهذا الأمر تلام عليه الدولة التي أفقدته إحساسه بالانتماء والثقة بها وذلك بالاعتماد على طرق وأساليب كثيرة تبدأ بالدولة العميقة ولا تنتهي بالتهميش.
السواد الأعظم من الدول العربية عززت التفرقة بين أبناء الشعب، ما دفعهم لعدم الشعور بالتساوي في الحقوق، فالمسيطرون على مفاصل الدولة يقدمون فئة من الشعب التي تشببهم بالطائفة أو الدين أو القومية، وتهمش الباقي مهما كانت نسبتهم في الشارع سواء كانوا أغلبية أو أقلية. والأمثلة على ذلك كثيرة ولنضرب منها صدام حسين الذين كان لديه فلاتر متعددة للشعب فالمواطن الدرجة الأولى لديه هو الذي يكون من قريته العوجة في مدينة تكريت، يليه المواطن السني، ثم يأتي الحزبي، وبهذا يكون صدام قد همش الشيعة والأكراد وهما مجتمعان لهما الأغلبية أمام العرب السنة في العراق. ولنأخذ لبنان مثالا أيضا فالشعب مقسم دينيا وطائفيا السني لا يحق له أن يصبح رئيسا والشيعي لا يحق له أن يرأس حكومة وكذلك المسيحي لن يصل أبدا لرئاسة البرلمان ونفس الأمر ينطبق على الجيش والوزارات الأخرى. أما مصر في ظل حكم أنور السادات وحسني مبارك كانت تهمش الأقباط الذين يشكلون أقلية فيها. وبعد هذه الأمثلة كيف ستطلب من المواطن في هذه الدول أن يكون منتميا للدولة؟ وهذه الأمثلة تضرب على معظم الدول العربية.
الفرد المهمش في المجتمع العربي سواء على أساس ديني أو طائفي أو عرقي، يبدأ احساس الوطنية لديه بالانحسار شيئا فشيئا حتى يصبح بعد جيلين أو ثلاثة شبه مفقود أو ثانوي، بينما يكون دينه أو مذهبه أو عرقه هو الأول لأنه همش على أساسه وبالتالي يعود لعصبيته الدينية أو القبلية، وتصبح هذه الهوية أعلى من الهوية الوطنية، وواجباته تجاه وطنه تكون أقل ولا يشعر بأي أهمية لأنه فعليا لا يمتلك الحقوق التي يمتلكها غيره من مواطنين الدرجة الأولى، لأنه من قرية الزعيم أو طائفته أو حزبه. وبعد عقود مما يمكن تسميته بنظام الفصل العنصري أصبح لدى المواطن العربي عدم وعي للخلاف بين الهوية الدينية أو القومية والهوية الوطنية.
بعد اندلاع أحداث ما سمي “بالربيع العربي” ظهرت لدينا مئات الجماعات الأرهابية في العالم العربي تحت مسميات كثيرة وعديدة، وجميعها تنسب نفسها للدين الإسلامي وهذه الجماعات خرجت نتيجة الكبت وإحساس الفرد بالتهميش وهو ما جعله لقمة سائغة للأفكار المتطرفة دينيا، فهذا الشخص المهمش في الحاضر يحاول البحث عن أي أثر تاريخي يشعره بأنه كان قويا في الأزمان السابقة، لذلك نرى أبو حفص التونسي وأبو دجانة الليبي والقعقاع المصري، لأنهم يشعرون أن أجدادهم كانوا أقوياء وذوي سلطة أما هم الآن مهمشون، لذلك فإن خروج الإرهاب في العالم العربي يتحمل مسؤوليته الدولة أولا والمجتمع ثانيا وعلماء الدين المتطرفون ثالثا. لذا يجب على الدولة أن تعي نقطة مهمة جدا وهي أنها إن حرمت الأشخاص من تأسيس نظامهم الخاص ولو داخليا سواء دينيا أو قوميا سوف يلجأون في النهاية إلى القبيلة والدين والطائفة ويبتعدون كل البعد عن مفهوم الدولة العام.
بعد كمية الدمار الكبيرة التي حلت بالوطن العربي خلال السنوات التسع بتنا بحاجة إلى إيجاد دولة حديثة تضم أبناء المجتمع جميعا لكن هذه الدولة لا تستطيع الحياة إن أبقت على أساسيات التقسيم والتفرقة هذه، خصوصا وأن العالم العربي يفتقر لوجود عمل سياسي حقيقي يتم البناء عليه. وليتم إيجاده يجب أن يشعر أبناء الشعب أنهم سواسية لدى الدولة، وحتى ينقل لهم هذا الشعور يجب جلبهم من الصومعة التي عُزلوا فيها أو عزلوا أنفسهم داخلها، واجثتاث التمييز بين أفراد الشعب سواء دينيا أو قوميا، وهذا الأمر لن يحدث إن لم يصل من يشعرون بالتهميش إلى مناصب عليا في الدولة ويكونون فعلا قادرين على التصرف في هذه المناصب، ولا يكون وصولهم صوريا فقط مثل وزير يكون من طائفة مختلفة عن الزعيم، ولكن لا يستطيع ان ينقل موظف واحد في وزارته، اما نائبه الذي ينتمي لطائفة الزعيم تكون امور الوزارة ومفاتيحها بين يديه.
منذ نهاية الاحتلال العثماني ومن ثم الاستعمار الفرنسي والبريطاني والإسباني والإيطالي على الدول العربية، أسس العرب دولهم وبدايتها كانت قبلية ثم قومية ثم حزبية حتى وصلنا للدول الطائفية حتى لو تغطت بالعلمانية وجميعها أثبتت فشلها، لذلك ما الضير من السماح بتأسيس دول حديثة مبنية على المساواة في الحقوق والواجبات؟ في محيطنا دول كثيرة عاشت نفس حروبنا ونفس التقسيمات مثل فيتنام أو الهند أو جنوب إفريقيا أو إثيوبيا، لكنها عندما نبذت كل ذلك وجعلت أفراد الشعب متساون في الحقوق والواجبات نهضت.. فما ينقصنا عنهم؟
هذا الطرح قد لا يرى النور في هذا العصر لأن جميع الشواهد تؤكد أن الدول الطائفية المرتدية عباءة العلمانية باقية وتتمدد ولكن هل سيعيش ابناؤنا نفس هذه الحياة؟