بقلم / مسعود معلوف
سفير متقاعد
تنتهي ولاية الرئيس الأميركي جو بايدن في العشرين من شهر يناير 2025 بعد أن يكون قضى مدة أربع سنوات رئيساً للولايات المتحدة، علما أنه الرئيس الأكبر سنا بين جميع الرؤساء الأميركيين الذين سبقوه. ومع انتهاء ولايته الرئاسية، سنتنهي أيضاً حياته السياسية التي دامت أكثر من نصف قرن.
لقد بدأت حياة جو بايدن السياسية في العام 1973 عندما انتُخب عضوا في مجلس الشيوخ الأميركي ممثلا ولاية ديلاوير وهو في سن الحادية والثلاثين، وأعيد انتخابه مرات عديدة وبقي عضواً في مجلس الشيوخ دون انقطاع حتى مطلع العام 2009 حيث أصبح نائباً للرئيس باراك أوباما لمدة ثماني سنوات، أي ولايتين رئاسيتين.
في السنوات الست والثلاثين التي كان فيها بايدن عضواً في مجلس الشيوخ الأميركي، لعب دوراً بارزاً في إصدار بعض القوانين الهامة مثل قانون مراقبة جرائم العنف وقانون العنف ضد النساء وغيرهما. هذا مع العلم أنه شغل في خلال هذه السنوات منصب رئيس لجنة العدل ورئيس لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ، وقد أكسبه ذلك خبرة واسعة في السياسة الخارجية للولايات المتحدة وفي الشؤون الدولية كما في السياسة الأميركية الداخلية.
أثناء توليه مركز نائب الرئيس، تسلم بايدن ملفات هامة كلفه أوباما بالإهتمام بها مثل ملف العراق حيث سافر بايدن الى هذا البلد مرات عديدة. كذلك اهتم بايدن بتعزيز العلاقات مع دول أميركا اللاتينية بصورة عامة، وخاصة مع كوبا التي سافر اليها الرئيس أوباما محاولا تطبيع العلاقات مع الجزيرة الجارة الى أن أعاد الرئيس ترامب هذه العلاقات الى أجواء الحرب الباردة.
بعد انتهاء ولاية أوباما الرئاسية، إنصرف بايدن الى التعليم في جامعة بنسلفانيا وإلقاء المحاضرات وكتابة مذكراته وكل هذه النشاطات قد أمنت له في أقل من أربع سنوات حوالى خمسة عشر مليون دولار.
وفي العام 2020 قرر بايدن خوض الإنتخابات الرئاسية بعد أن كان ترشح مرتين في السابق دون أن يوفق، الأولى عام 1988 والثانية عام 2008، وقد تمكن من الفوز على خصمه الرئيس دونالد ترامب، الى حد ما بدعم من الجاليات العربية والإسلامية في الولايات المتأرجحة وخاصة ولاية ميشيغن التي فيها وجود عربي وإسلامي وازن.
بدأ جو بايدن ولايته الرئاسية في مطلع عام 2021 بإعادة الوجود الأميركي في محافل دولية هامة كان سلفه ترامب قد أخرج الولايات المتحدة منها مثل اتفاقية باريس للمناخ ومنظمة الصحة العالمية، كما حاول إعادة التفاوض مع إيران لعودة الولايات المتحدة الى الإتفاقية النووية التي وقعت أيام الرئيس أوباما عام 2015 وانسحب منها ترامب، ويضاف الى كل ذلك إعادة إقرار الولايات المتحدة بحل الدولتين فيما يتعلق بإسرائيل وفلسطين.
كذلك دعم بايدن حلف شمال الأطلسي، وعزز العلاقات مع عدد من الدول الأوروبية التي كان بعض قادتها ابتعد عن الولايات المتحدة أيام رئاسة دونالد ترامب، واتخذ مواقف لتطويق الصين عبر تعزيز التحالفات مع دول في شرق آسيا والمحيط الهادئ، وقدم الدعم العسكري والمالي لأوكرانيا في مواجهة الحرب الروسية عليها والتي بدأت في شهر فبراير من العام 2022.
كان بايدن ينوي الترشح لدورة ثانية في انتخابات هذا العام ولكن تقدمه في السن والنتائج الكارثية للمناظرة التي جرت بينه وبين ترامب جعلته يقبل بنصائح وضغوط شخصيات من الحزب الديمقراطي لعدم الترشح، فرشح نائبته كاملا هاريس التي لم توفق في الفوز بالرئاسة.
هذه اللمحة السريعة المختصرة تدل أن جو بايدن سياسي أميركي ناجح، يتمتع بخبرة طويلة وواسعة جدا ليس فقط في الشؤون الخارجية، بل أيضاً في شتى أوجه السياسة الداخلية الأميركية. ولكن الإنطباع الذي أصبح سائداً عنه منذ الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة غيرت هذه الصورة لبايدن بشكل كبير وسنوضح فيما يلي جوهر هذا التغيير وأسبابه.
معروف عن بايدن أنه مؤيد لإسرائيل بصورة تامة طيلة حياته، وهو القائل عام 9861 أنه “لو لم تكن إسرائيل موجودة لوجب علينا إيجادها” وفي ذلك ما يدل على قناعته بأن إسرائيل هي حاجة أميركية. يضاف الى ذلك أنه في منتصف عام 2022، عند زيارته الأولى الى إسرائيل كرئيس للولايات المتحدة، وفي خطاب ألقاه أمام المسؤولين الإسرائيليين عند وصوله الى مطار بن غوريون قرب تل أبيب، قال بايدن حرفياً: “أنت لست بحاجة أن تكون يهودياً لتكون صهيونياً، أنا صهيوني.”
وبعد عملية “طوفان الأقصى” بأيام قليلة، قام بايدن بزيارة الى إسرائيل حيث عانق نتنياهو بالرغم من خلافاته السابقة معه، وأوفد وزير الخارجية ووزير الدفاع ومستشار الأمن القومي ومسؤولين آخرين كما أرسل أكبر وأقوى حاملة طائرات أميركية وبوارج حربية، وزود إسرائيل بكميات هائلة من الأسلحة والأموال، معلناً أن إسرائيل ليس لها فقط الحق في الدفاع عن نفسها، بل هذا واجبها أيضا.
ولكن عندما بدأت إسرائيل بتوسيع حربها الوحشية على قطاع غزة وقتل آلاف الأبرياء خاصة من النساء والأطفال، وبعد إقفالها المعابر وقطع الماء والغذاء والدواء عن المواطنين، واستهداف المساعدين الإنسانيين وتدمير المستشفيات والمدارس والمنازل، بدأت إدارة بايدن تشعر بهبوط كبير في مستوى مصداقيتها الدولية نتيجةً لتأييدها الأعمى لإسرائيل، فبدأ الرئيس بايدن يطالب نتنياهو بوقف إطلاق النار فزار وزير الخارجية الأميركية أنتوني بلنكن إسرائيل مرات عديدة لإقناع نتنياهو بالقبول بالهدنة وبالسماح بإدخال المواد الغذائية والأدوية وحماية المدنيين ولكن نتنياهو كان لا يتجاوب إطلاقاً مع المطالب الأميركية.
وتكثفت المفاوضات بين إسرائيل وحماس برعاية قطر ومصر والولايات المتحدة من أجل تحقيق هدنة، وعقدت من أجل ذلك جولات عديدة من المفاوضات في القاهرة والدوحة وباريس وروما، وبعد كل جولة كان يقول المسؤولون الأميركيون أننا نقترب من الوصول الى اتفاقية هدنة، وكان نتنياهو يأتي بعد ذلك بشروط تعجيزية يستحيل على الفريق الإخر القبول بها، وتلوم إدارة بايدن حماس بدل أن تلوم نتنياهو.
بعد الجولة الأخيرة التي عقدت في الدوحة منذ أكثر من شهرين، قال بايدن بنفسه “نحن الآن أقرب من أي وقت مضى لتحقيق هدنة يليها وقف إطلاق النار، فما كان من نتنياهو بعد ذلك بقليل إلا أن صرح علنا ان ليس هنالك مفاوضات الآن لوقف إطلاق النار، ما شكل إهانة واضحة لبايدن.
عندما اقترب الجيش الإسرائيلي من مدينة رفح، حذر بايدن نتنياهو من اجتياح المدينة معتبرا ان القيام بمثل هذا العمل هو خط أحمر بالنسبة الى الولايات المتحدة. ولكن بعد أن اجتاح الإسرائيليون رفح رغم تحذير بايدن، قالت الإدارة الأميركية أن إسرائيل لم تتجاوز أي خط أحمر. وبعد أن وجه وزيرا الخارجية والدفاع الأميركيين تحذيرا خطيا لإسرائيل بضرورة تأمين المواد الغذائية للمدنيين في قطاع غزة ضمن مهلة شهر وإلا ستوقف الولايات المتحدة تزويد إسرائيل ببعض أنواع الأسلحة الهجومية، وبعد أن أكدت الوكالات الأممية العاملة في غزة ان الأوضاع المعيشية أسوأ مما كانت عليه قبل تاريخ الرسالة، اعتبرت الإدارة الأميركية علناً انه حصل تحسن في إدخال المواد الغذائية الى القطاع ولم تنفذ تهديدها.
الأمر نفسه حصل عندما بدأت إسرائيل حربها على لبنان عبر تدمير المنشآت المدنية والمنازل والمستشفيات وقتل الصحافيين والمسعفين والمدنيين تماماً كما تفعل في غزة، فأوفد بايدن ممثله آموس هوكشتاين الى لبنان وإسرائيل مرات عديدة لتحقيق وقف إطلاق النار، وكل هذه المحاولات رفضها نتنياهو بمراوغته المعهودة، وبالرغم من كل ذلك، استمر بايدن بإرسال الأسلحة والأموال الى إسرائيل بالإضافة الى حمايتها في المحافل الدولية وخاصة في الأمم المتحدة عبر استعمال حق الفيتو كلما تعرضت إسرائيل لإدانة في مجلس الأمن، وقد تفاقم ذلك عندما رفض المندوب الأميركي مشروع قرار لوقف إطلاق النار في غزة بعد أن كانت إدارة بايدن تحاول جاهدة تحقيق ذلك مع الوفدين القطري والمصري، ما أعطى الإنطباع بضعف الولايات المتحدة وخاصة الرئيس بايدن أمام إسرائيل وأمام نتنياهو.
الى كل ذلك يضاف موقف بايدن من قرار المحكمة الجنائية الدولية في قرارها باعتقال نتنياهو ووزير دفاعه السابق غالانت لارتكابهما جرائم حرب وإبادة جماعية إذ انتقد بايدن بشدة هذا القرار معتبراً أن هذه المحكمة لا تملك صلاحية إصدار هكذا قرار في الوقت الذي رحب فيه سابقا بقرار هذه المحكمة اعتقال الرئيس الروسي بوتين.
هذه المواقف من قبل الرئيس بايدن أظهرت ضعفا شديداً في شخصيته في كل ما يتعلق بإسرائيل وضعفا واضحا أمام نتنياهو الذي كان يرفض جميع طلبات بايدن مهيناً الرئيس الأميركي بصورة علنية مع استمرار بايدن بتقديم كل الدعم والتأييد لإسرائيل.
يحاول بايدن الآن تبديد صورة الضعف التي أصبحت مرتبطة بإسمه ليعطي انطباعا بأنه رئيس قوي يقف في وجه الرئيس الروسي بوتين وذلك بالسماح لأوكرانيا باستعمال الصواريخ الأميركية البعيدة المدى لقصف الأراضي الروسية، وكذلك من المتوقع أن يتخذ قرارات ضد الصين ويعلن مواقف قوية في مواضيع دولية مختلفة قبل انتهاء ولايته مثل الضغط على اسرائيل من أجل وقف إطلاق النار في لبنان، ولكن حتى لو اتخذ مواقف قاسية ضد إسرائيل ونتنياهو بالذات، وهذا أمر مستبعد فعلا، فإن ذلك لن يغير الإنطباع بأنه كان رئيسا ضعيف الشخصية وحذراً جداً في علاقته مع نتنياهو بالرغم من نجاحاته في مجالات أخرى من السياسة الخارجية الأميركية، وبذلك تكون إسرائيل قد كشفت هذا الوجه المخفي في شخصية الرئيس جو بايدن.