بقلم: نعمة الله رياض
فى مطعم كبير يطل علي كورنيش البحر بالاسكندرية ، جلس سالم في ركن من أركانه ، هو مكانه المفضل الذي يأتي إلية كلما زار الاسكندرية بغرض العمل أو الترفيه، واسعده الحظ أن يجد مائدة في هذا الركن غير مشغولة .. أخذ`يجتر ذكرياته ويستعيدها وهو يراقب من النافذة الكبيرة التي بجانبه أمواج البحر في توالي لا ينتهي للمد والجزر علي رمال الشاطئ ، في إحدي هذه الزيارات تعرف علي فتاة في حفل زواج أحد معارفه ، طالبة في كلية نظرية بجامعة الإسكندرية ، وافق أهلها عندما تقدم لخطبتها، وكان يذهب لزيارتها خصيصا من القاهرة كل اسبوع ، ويخرج معها للتنزه علي الكورنيش .. في هذا المطعم ولدت قصة حب رومانسية لأول علاقة عاطفية له مع الجنس الأخر ، مع فتاة في عمر الزهور … كانا سعيدين كل منهما بالآخر ، سرعان ما تزوجا بعد أن تخرجت من الكلية وأقاما في شقة بالقاهرة حيث يعمل الزوج .. كان الزوجان متحابان ولم تحدث بينهما مشاكل تذكر، فكان الزوج يستشير زوجته قبل أن يقدم علي أي تصرف قد يؤثر علي الاسرة ، وكانت الزوجة تفعل ذلك أيضاً.. كانت الأحوال السياسيه في الوطن متوترة بسبب إحتلال سيناء ، ورغبة الحكومة والشعب في تحرير قطعة غالية من أرض الوطن ، ولم يمر سوي أربعة أشهر علي زواجهما الا وتم استدعاء سالم للقوات المسلحة كنقيب احتياط ، وكان قد أنهي التجنيد الإلزامى ثم خدم كضابط إحتياط ورقي حتي رتبة نقيب إحتياط قبل أن يعود إلي عمله المدني، بعد شهر واحد أندلعت الأعمال الحربية ، وتم نقل الكتيبة التي يخدم فيها الزوج إلي الجبهه ، إشتعلت الحرب وحمي وطيسها عندما عبر الآف الجنود قناة السويس وكان من ضمنهم الكتيبة التي يخدم فيها النقيب سالم ، مضت ثلاثة ايام وتم تكليف سالم مع إثنين من زملائه باستطلاع ممر متلا بمنطقة المضايق بسيناء تمهيداً لعبور وحدات الجيش منه .. استقل الضباط الثلاثة عربة جيب واتجهوا نحو المضايق وإختاروا جرفا في الجبل مطل علي ممر متلا للتمركز فيه وبنوا سواتر من الحجارة لحمايتهم، كما اخفوا السيارة الجيب بفروع وأورق الشجر .. مضت عدة ساعات من الملاحظة والترقب حتي شاهدوا رتلا من العربات المصفحة يقترب من موقعهم.. بادر العدو بإطلاق النار عليهم فردوا بإطلاق دفعات من رشاشاتهم إستمر تبادل إطلاق النار تحت جنح الظلام ، في الصباح الباكر إكتشف سالم أن رفيقيه قد استشهدا وأنه أصيب في كتفه وسقط وإرتطمت رأسه بارض الجرف الصخري ، ساعات اخري مضت ريثما فتح عينيه مرة أخري ، وجد نفسه محاطاً برجال ونساء بملابسهم البدوية يبحلقون فيه بفضول ويتفحصون ملابسة العسكرية ويتابعون رئيس القبيله وهو ينظف الجرح الذي اصابه .. حاول سالم أن يتذكر ما حدث له فلم يستطع ، تولت ابنة رئيس القبيلة العناية به ومداواته حتي افاق اخيرا، لكنه لم يزل فاقداً للذاكرة من أثر ارتطام رأسة بصخر الجبل .. أعجب بابنة رئيس القبيله الحسناء وتفانيها في خدمته ، وشكرها علي ما بذلته من جهد في تمريضه ومن ناحيتها فقد أعجبها سالم واحضرت له ملابساً بدوية ليرتديها ويتخفي عن العدو..أرسل قائد الكتيبة مجموعة أخري لإستطلاع ممر متلا فعثروا علي جثتي زميلي سالم ولم يكتشفوا جثة لسالم ، أنهت المجموعة مهمة الأستطلاع ، وعادت إلي مقر الكتيبة وقدمت تقريراً أوضحت فيه انه تم العثور علي جثتي زميلي النقيب سالم ودفنهما ، لكن لم يعثر للنقيب سالم علي أثر وتم إعتباره مفقوداً .. توطدت العلاقة بين رئيس القبيلة وابنته بسالم وإقترح عليه ان يساعده في الإشراف علي الرعي وتسويق منتجات البان ولحوم المواشي ، نظرا لعدم استرداد سالم لذاكرته بعد .. مرت شهور قليلة وطلب سالم من رئيس القبيلة الزواج من ابنته فوافق وتم الزواج وانجبت زوجته طفلين ..
منذ اليوم الذي استدعي فيه سالم للإحتياط كانت زوجته الأولي تتابع بصورة مستمرة أخبار الحرب التي يخوضها أبناء الوطن، واستمرت في الإتصال التليفوني به للإطمئنان عليه ، ولكن أصبح الإتصال به مستحيلا بعدما عبرت كتيبته قناة السويس ، مضت سبعة أيام علي عبوره عندما طرق باب شقتها ضابط وابلغها أن زوجها قد فقد أثناء تأديته الواجب الوطني ، وطلب منها الذهاب لإدارة شئون الضباط ، لتسوية معاشه ومستحقاته المالية.. مادت الأرض تحت أقدامها وسقطت علي الأرض مغمي عليها ..انهمرت دموعها حزناً علي زوجها الحبيب ،وأصبح عليها أن تواجه الحياة بمفردها .. في اليوم التالي انهت الزوجة الإجراءات المطلوبه ، وحزمت حقائبها وتوجهت لللإقامة مع والديها بالإسكندرية .. مضت الأيام ودفنت الزوجة أحزانها والتحقت بشركة صناعية كمحاسبة بالإدارة المالية ،أعجب بها مديرها في الشركة ، وسرعان ما طلب منها الزواج ، كان قد مضي علي فقد سالم عامين فإصطحبها والدها إلي محامي للإستشارة القانونية والذي اوصي بعمل اجراءات إعتبار سالم متوفي بدلا من مفقود، ليحق لها الزواج من جديد ، واوضح لها تعريف المفقود بأنه “ليس معلوما” مكانه ولا كونه حياً أم ميتاً ، وطالما لم يحكم بوفاة المفقود بعد فإن شخصيته القانونية تبقى قائمة ، فإذا انقضت سنة على غياب الشخص توجد إجراءات لإعتبار الشخص المفقود ميتاً فإذا كان الفقد في ظروف يرجح فيها الهلاك مثل سقوط طائرة او غرق باخرة أو فقد في العمليات الحربية أو الأمنية ، وفي حالة النقيب سالم فإنه يعتبر ميتا في العمليات الحربية ويمكن إصدار قراراً من وزير الدفاع باعتبارة ميتا .. وهكذا تمكنت الزوجه التي أصبحت أرملة قانوناً ، من الزواج بدون عوائق قانونية وأنجبت طفلة بعد فترة قصيرة .. أصبح سالم رجل أعمال يتولي تربية المواشي وتسويق منتجاتها ، وبمرور الزمن عادت إليه ذاكرته رويداً رويداً ، وتذكر زوجته الأولي وشواطئ الإسكندرية والمطعم المطل علي البحر وتذكر ركنه المفضل فيه ، فقرر أن يسافر إلي الإسكندرية لزيارة زوجته الأولي ، عندما وصل إلي شقة والديها علم منهما أنها تزوجت من رجل آخر .. ثار سالم وتمسك بزوجته وطلب أن تعود اليه ، لحسم الأمور ، إتفق والد زوجته الأولي مع سالم علي الذهاب لإستشارة المحامي لمعرفة إمكانية عودته لزوجته الأولي فقال المحامي :- إذا ظهر المفقود حيا فإنه يسترد شخصيته القانونية بأثر رجعي أي يعتبر كأنه لم يفقدها في يوم ما ويعتبر الحكم بالفقد كأن لم يكن. ولكن إذا صدر حكم بعد ذلك أنه ميت ، تعتبر الزوجة أرملة من تاريخ صدور الحكم وتبدأ في تلك اللحظة أن تعد عدة الوفاة وهى 4 شهور و10 أيام وبعدها يحق لها الزواج ..، وهذا ما فعلته الأرملة لتتمكن من الزواج مرة أخري بحكم القانون ، كما علموا أنه ليس للمفقود الحق في إعادة زوجته إليه إذا أقدمت علي الزواج من جديد برجل آخر بشروط منها : أن يكون الزوج الثاني حسن النية ، أي لم يكن يعلم بأن المفقود مازال على قيد الحياة ، وألا يكون الزواج قد تم في فترة العدة . فإذا توفرت هذه الشروط مجتمعة لا يحق للمفقود أن يسترد زوجته .
وهكذا انتهت حيرة الزوجه بين زوج احبته وفقد ثم ظهر حياً وزوجها الحالي الذي عاشت معه سعيدة وفي سلام وأنجبت له طفلة .. كذلك قنع سالم بنصيبة في الحياة وعاش سعيداً مع زوجته وأولاده في سيناء ..