بقلم: محمد منسي قنديل
لست من عشاق التاريخ الكبير، لأن صفحاته مليئة بالصخب والأبهة الكاذبة، فهو يحفل بسطور عديدة عن سيرة كل ملك من الملوك لحظة اعتلائه العرش على اشلاء منافسيهم، وأحيانا يكون هؤلاء من أقرب الناس إليه، أخوة وابناء عمومه، ولا تتأكد شرعيته إلا بمزيد من الضجيج، تعزف الابواق ألحان “الفان فار” وتدوي المدافع بالطلقات تؤازرها صياحات الجماهير المهتاجة، وهناك سطور ثانية من هذا التاريخ تروي عن الغزاة الذين لايتوقفون عن خوض المعارك واكتساح المدن، يتحركون على ايقاعات صهيل الخيول وقعقعة السلاح، وسطور ثالثة عن الفقهاء ومدعي القداسة واثرياء الحرب واتباع السلطان.
قتلى المعارك في هذا التاريخ ارقام بلا اسماء، لا وزن لها ولا يأبه بها أحد، المجد للمنتصر والويل للمهزوم، فالأول دائما ما يكتب التاريخ على هواه.
أنا اشد ميلا لصفحات التاريخ الصغير، تاريخ الناس البسطاء الأقل صخبا، الأصوات داخل سطوره لا ترتفع، تتراوح بين همس وصمت وقليل من صيحات البهجة، عندما يودع الفلاحون بذورهم في باطن الأرض، ليواصلوا قصة الخلق، ويجهز الصناع مواد البناء لإعمار الأرض، وينفخ الحدادون في الكير ليجددوا طاقة الكون، جميعهم يتمتمون بالأدعية الخافتة والآيات المقدسة، تعاويذ ورقى، يحفظونها عن أسلافهم الذين مضوا، ميراثهم الوحيد الذين لا يملكون غيرها، ولكنها تمدهم بالأمان، تصل بينهم وبين قوى الكون الخفية التي لا تدركها الحواس، في هذا التاريخ يبتلع الحالمون والمظلمون والسجناء شكاواهم ويلوذون بصمت اليأس والقنوط، فالبسطاء لا يملكون قوة التغير إلا كل حين من الدهر، ولا تسمع اصوات الفرح بينهم إلا مع صرخة كل الوليد عندما يأت إلى العالم، أو وزفة كل عروس وحصاد كل سنبلة قمح، فرح البسطاء دائما ما يأتي خافتا ملئ بشجن غابر ولكنه يشي ببهجة تواصل الحياة.
وسط ثنايا سطور هذا التاريخ الصغير توجد تفاصيل أصغر، تمر في جمل عابرة، لا ينتبه إليها راصدو الاحداث، ولا يحاول أحد التأكد من صحتها أو تأثيرها، ولكنها دائما ما تلفت نظري، فهي مثل البهار، تضفي نكهة على الطعام دون أن تؤثر على قيمته الغذائية، أي أنها تعطي للتاريخ نكهته الإنسانية، وهي على صغرها تعطي دلالة على عصر واسع، وتصمد لتقلبات الزمان والمكان، هناك تفاصيل للدهشة، فمن عصر ملوك المغول الذين حكموا الهند، مازلت اذكر ذلك الطبق المسطح الذي يوجد في متحف القلعة الحمراء في “داكا”، وهو مصنوع من حجر “اليشب” المائل للخضرة، مخصص فقط حتى يتناول الملك طعامه فيه، ميزة هذا الطبق أنه يفقد لونه الأخضر ويتحول إلى الأحمر إذا كان الطعام مسموما، تحذير قوي للملك لم تتوصل إليه التقنيات الحديثة، ومن المؤكد أنه كان فعالا، فعهد ملوك المغول قد دام قرونا من الزمن، ولم يقض عليه سوى الانجليز عندما قاموا باحتلال الهند. وهناك تفاصيل مليئة ببكارة الاكتشاف، ففي مدينة براغ التشيكية ، عاصمة “بوهميا” القديمة، أوشك جسر الملك “كارل” أن يسبب مشكلة حقيقية لحكام هذه الإمارة ، فالجسر تحفة فنية، ويوجد على جانبيه مجموعة جميلة من تماثيل القديسين، ولكن كلما فاض نهر “الفلتافا” كانت كتل الجليد تضرب دعائم الجسم وتسبب في انهياره، وبعد محاولات فاشلة لإعادة البناء، جاء مهندس جديد بفكرة جديدة، توصل خلطة جديدة تتكون من مزج كمية من البيض مع الكلس وبقية مواد البناء حتى تتماسك، وكان المطلوب ربع مليون بيضة تقريبا، وارسل الملك يطلبها من كل قرى المملكة، بعض القرى فهمت الرسالة بدقة وأرسلت البيض طازجا، والبعض خاف عليها من الكسر فأرسلت الكمية مسلوقة، وأرسل البعض أيضا كميات من اللبن والجبن، لم تدخل في اساسيات الجسر، ولكنها عرفت طريقها لبطون العمال بطبيعة الحال، ومن المؤكد أن الفكرة كانت جيدة وكمية البيض كافية، لأن الجسر مازال صامدا حتى الآن.
وفي التاريخ الصغير لا توجد مسافة الاسطورة والتاريخ، ويقال أن الاساطير هي وقائع قديمة تغيرت وتحورت واكتسبت مسحة من الخيال والمبالغة، ولا يبتعد الهنود الحمر عن منطق الواقع إلا قليلا حين يعتقدون أن هناك إلها خاصا للحيوانات، ربما كان أدنى شأنا وأقل هيبة من بقية الآلهة، ولكن مهمته نبيلة، الحافظ على الحيوانات من الانقراض، لا يفرق بين القوي والضعيف، فهو يهب القدرة للأرانب البرية على العيش في الغابة رغم غارات النمور والفهود الجائعة، ويلهم الغزلان أفضل الطرق للهروب من الاسود، وتزداد مهمته صعوبة في مواجهة مهارة الانسان، خاصة مع تطور اسلحة الصيد الفتاكة، هل هناك وجود فعلي لهذا الإله؟ ربما، فالحيوانات لم تنقرض رغم أن الغابات تتلاشى، ورغم أن الانسان يزداد شراسة، ويعتقد الهنود ايضا أهناك بحيرة للأحلام، ينزلق إليها النائم، ويظل يسبح طوال الليل ، يواجه كل ما في البحيرة من مخلوقات ووقائع غريبة، وعندما يصل إلى حافة البحيرة أخيرا تنتهي الأحلام ونستيقظ من النوم.
وتحتوي تفاصيل التاريخ رغم صغرها على أشد مشاعر الحنق والضغينة، فعندما زالت دولة بني امية ونولى بنو العباس زمام الارض ورفعوا فوقها راياتهم السوداء، لم يشف ذلك غليلهم، فأخذوا ينبشون قبور بني أمية ويخرجون عظامهم ويمثلون بجثثهم، واخرجوا حتى عظام الخليفة العادل عمر بن عبد العزيز، احرقوها في حالة غريبة من التشفي لا تليق إلا بنا كعرب، ولا تخلو التفاصيل من التطير والإيمان بالخرافة، فالتاريخ المصري الممتد يقيم صلة وصل خفية بين الفراعنة وحكام مصر المعاصرين، كل واحد منهم فرعون بطريقته، لذا حرص الرؤساء المتعاقبون على الاحتفاظ بعصا فرعون، صولجان عليه نقوش هيروغليفية تضمن لحامله أن يبقى في الحكم طوال حياته، ويقال أن هذه العصا قد اخذت من المتحف المصري واختفت في قصور الحكم، ولابد انها قد اتت بفعلها، فالرئيس الاول والثاني ماتا وهما في قمة السلطة، واستطالت فترة الثالث لتصبح أطول من الجميع، وبدا في سنواته الاخيرة اشبه بالميت وهو يحكم البلاد من خلال ابنه، اما الرئيس الرابع فيبدو أنه لم يسمع بقصة العصا أصلا، ومر على كرسي الحكم مرورا سريعا، ولا أحد يعرف حتى الآن اين استقرت هذه العصا، التفاصيل كثيرة ومدهشة، وتحتل المنطقة الرمادية بين الحقيقة للخيال، وعلى الرغم من صغرها فبعضها يفضح الواقع من فرط غرابته.