بقلم/ أسماء أبو بكر
كنتُ أرى من الموافقات الروحية بين الأشخاص ما أثار شغفي وفضولي إلى معرفة أسرار هذه الموافقات والمناسبات بين المتجانسَيْن والوقوف عليها، ولما نظرت في ذلك رأيت عَجَبًا عُجابًا، فرأيت منهم الذين يمرضون معًا، ورأيت منهم الذين يموتون سويًّا، حتى رأيت منهم الذين يُولدون في شهر أو يوم واحد ويموتون في شهر أو يوم واحد.
أما عن أسرار هذه الموافقات وبعد قراءاتي استقريت الآتي:
أولًا: قبل الحديث عن سر هذا التوافق سنتفق على أن هذا التوافق ناتج عن الميل والتجاذب الذي يكون ناتجًا عن توافق الطبائع البشرية، سواء أكان ذلك التوافق ناشئًا من توافق الصفات والطباع والماهيات والأجناس والألوان والأحجام وغير ذلك من الأعراض البشرية التسع التي تقوم بالجوهر، وفي ذلك ما أورده الإمام الغزالي في الإحياء في هذا الباب: أنهم وجدوا قديمًا غرابًا يأكل بجوار حمامة ! فاستغربوا لذلك، وتساءلوا ما هو الشيء المشترك بين الغراب والحمامة ؟! ليكتشفوا بعدها مباشرةً أن الغراب أعرج والحمامة عرجاء ! فهذا هو ما اتفقوا فيه؛ ولذلك مالوا إلى بعضهم، وتجاذبوا فأكلوا بجوار بعضهم مستأنسين.
أما عن سر هذا التجاذب فقد ذهب بعض الفلاسفة قديمًا: إلى أن التجاذب والميل نشأ من الجوهر ذاته وهو الروح، فقالوا: إن الأرواح عندما خُلِقَتْ كانت الواحدة منها تُقْسَمُ لنصفين، وتُوَزَّعُ على الأجساد، فمتى وجد الإنسانُ شخصًا وتجانس معه وتجاذبَ إليه، وصار يأنس به ويرافقه، فهذا الشخص فيه نصف روحه التي قُسِمَتْ من القِدَمِ منذ خلق الله الأرواح، فلذلك تم التوافق والمناسبة، ولا شك أن هذا مذهب عجيب.
وقد قيل: ذلك ناشئ من تلاقي الأرواح عند النوم في مكان اجتماعهم.
وقد قال سيد الخلق وروح الأرواح سيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم- في ذلك الشأن: “الأرواح جنود مجندة، ما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف”.
والروح هذه عجيبة غريبة، وهذه الموافقات أعجب وأغرب، ويبقى أمرها من أمر الله مهما اجتهد المفسرون والعالمون في تفسير هذه الظواهر، وترجمة هذه الموافقات.
ومن هذا التوافق والميل ينشأ الحب، والحب هو الميل القلبي للشيء الحسن، سواء أكان هذا الحسن ماديًّا أو معنويًّا.
وقد قالوا كلمة في شأن هذا الحب لما علموا عظم قدره وشأنه، قالوا: “الحبُّ سرُّ الوجودِ”، ربما تكون هذه الكلمة فيها مبالغة بعض الشيء، ولكن إذا أردنا أن نسوقها في سياق صحيح ومقبول فيمكن أن نقول: “الحبُّ حياةُ الوجودِ”؛ لأنه منشأ اللذة الروحية والقلبية قبل الجسدية، ويصير الإنسان بهذا الحب كأنه وُلِدَ من جديد؛ لما يعتري هذا الحب من أعراض الغَرامِ من قُرْبٍ وشَوْقٍ وبُعْدٍ واهْتمامٍ ووَصْلٍ وغَيْرَةٍ .. وغير ذلك، فهذه المشاعر كلها المتعلقة بشعور واحد تجعل حياة الإنسان مثيرة وجميلة.
هذا الحب أيضًا عجيب غريب، فقد وجدنا -لمَّا نظرنا في أحوال المحبين- أن الحب يُهَذِّبُ الطباع، ويُغَيِّرُ الأخلاق الذميمة إلى أخلاق حسنة، ووجدناه يُقوِّمُ الانحرافات السلوكية، حتى أن الأطباء النفسيين عندما يأتيهم مريض نفسي يبحثون عن علاقاته أو يحثونه على إنشاء علاقة؛ لأن هذا الحب كفيل أن يُغيِّرَ حياتك ويُغيِّرَ سلوكك وكل شيء، وقد رأينا مئات القصص عن مئات الأشخاص الذين غَيَّرَهم الحب إلى الأحسن.
وهذا الحب وجدناه يرفع التكليف، والتكليف هو: طلب ما فيه كلفة، ومعنى ذلك: أنه يمنع المشقة والتعب في تلبية أوامر وحاجات المحبوب، مهما كانت متعبة أو قاسية، وقد درجت هذه العبارة على ألسنة السادة الصوفية وفي اصطلاحاتهم “أن الحب يرفع التكليف” حتى ظَنَّ بعض الناس أنهم يقصدون رفع التكاليف الشرعية، وهذا غلط لا يقول به مسلم متشرع فضلًا عن صوفي عارف بالله، وإنما كان قصدهم أن الحب يرفع مشقة التكليف والتعب في أداء الطاعات وتلبية أوامر الله واجتناب نواهيه؛ لأنهم يعيشون حالة وجدانية عاطفية في علاقتهم مع الله عز وجل.
وقد تجد الشخص المحب لديه استعداد أن يبذل روحه في مقابل إرضاء حبيبه، وهذا البذل ناتج عن الإخلاص، فمن ثمرات هذا الحب هو الإخلاص أيضًا؛ لأن الحب إذا كان خاليًا من الإخلاص فلا خير فيه.
وإذا كان الحب متعلقًا بالرواح اتَّصلَ ودَامَ؛ لأن الروح لا تتغير بتغير الزمان، بخلاف الجسد الذي يتغير بتغير الزمان، ويذهب منه رونقه وبهاؤه.
مما سبق اتَّضح لدينا صحة مقولة: “الحبُّ سرُّ الوجودِ” بالمعنى الذي قلناه أن “الحبُّ حياةُ الوجودِ”، فعلى كل شخص أن يسلك طريقًا في هذه المحبة أيًّا كانت اتجاهاتها، ولكن بشرطين:
أولًا: أن تجعل الله عز وجل أمامك في كل شيء، وأن تراقبه في جميع أقوالك وأفعالك.
ثانيًا: أن تكون مخلصًا في حبِّك لحبيبك حتى يَتِمَّ المطلوب، وتَنْعَمَ وتَسْعَدَ بهذا الحب طوال حياتك