بقلم: مينا بشير
تَنطَلي على البشَرِ الكثيرُ منَ الأكاذيبِ على مَدارِ حَياتهم، فعلى سبيلِ المثال، لطالَما أخبَرَتنا مَعاجِمُ اللغةِ أن الخوفَ ضِدُّ الشجاعة، أو أن الشَجاعةَ ضِدُّ الخَوف، لا فَرق. لكن الحَقيقةَ التي تُطلِعُنا عليها الفَلسَفةُ و عِلمُ الأنثروبولوجيا هي أن الشجاعةَ جَنينٌ في بَطنِ الخوف. أو بمَعنىً أكثرَ دِقّة، الخوفُ هو الأمُّ الحُبلى، و الجَنينُ الذي يَسبَح في رَحِمِها هو الشَجاعة. الخوفُ هو الهالةُ الأكبرُ التي تحمِلُ داخِلَها قَطرةَ الشَجاعة، أي أنهما أشبهُ بالخَليّةِ و النواة. جميعُ البَشَرِ شُجعانٌ بفِعلِ الفِطرةِ و تحت تأثيرِ الغَريزةِ البشَرية، إلا أننا مع مُرورِ الوقتِ نُصبِحُ أقلَّ قُدرةً و كفاءةً على إبداءِ هذه الشَجاعة، فنُفَضِّلُ الاحتفاظَ بتلك الشجاعةِ لأنفُسِنا، نُحاوِلُ أن نَستُرَها كأنها عَورة، كأنها خَطيئةٌ يُحَرِّمُها المُجتمَع، فنؤثِرُ دائمًا التِزامَ الصمت. نحن لا نَخاف، إذ أن هناك تَتِمّةً لتلك الجُملة. نحنُ نَخافُ من الشَجاعةِ بذاتِها، نخافُ أن نتَحَلّى بها. على الأرجَح، يَكمنُ سببُ ذلك الخوفِ في تلك المِساحةِ اللامُتَناهية التي تَمنَحُها لنا الشجاعة. فالشَجاعةُ ليست سوى مَساحةٍ شاسِعةٍ من الاحتِمالاتِ الجَديدة، و كَلِمة الجَديدة بمُفرَدِها تُخيفُنا نحن مَعشَرَ البشَر، فنحنُ نُفَضِّلُ الاستِقرارَ و النِظامَ و الرَتابة على أي شَيء. لسنا سوى مُدمِنين، مُدمِنينَ على تَعاطي الأُلفة، نُريدُ دائمًا أن نألَفَ كل شَيءٍ يَجري حَولَنا. أن يبدو العالمُ الخارجيُّ مألوفًا و مُتَوَقَّعًا بالنسبةِ لعُقولِنا يَمنَحُنا شيئًا من السُلطةِ على الحياة، إذ يُمكِنُنا التَكَهُّنُ بسُهولةٍ بالأحداثِ القادِمة، و الفضلُ كله يَعودُ لتلك الكُرةِ الزُجاجيّةِ بنَفسَجيةِ اللَون، المُسَمّاةُ بالروتين. فكيفَ لنا أن نَنحَرِفَ عن مَذهَبِ الروتين بتلك السُهولة؟ نحن الذينَ رَسَمنا تَفاصيلَ أيامِنا بالخُطوطِ العَريضة. كيف نَمتَلِكُ الجُرأةَ و الشجاعةَ للتَمَرُّدِ على الروتينِ الذي خَدَمَنا طوالَ تلك السنوات؟ هذه هي المُعضِلة، فالشجاعةُ بالنِسبةِ للإنسانِ المُعاصِرِ تَعني المُرونة، المُرونةَ الفائِقةَ التي تُمَكِّنهُ من الخَوضِ في الجديدِ دون تَرَدُّدٍ أو خَوف، كأنهُ يَغطِسُ في بِركةٍ من الماءِ البارِد. إن الشَخصَ الذي يَعتادُ على قَضاءِ أيامٍ مُكرَّرةٍ داخِلَ دائرةِ الراحةِ المُفرَغةِ لن يتَقَبَّلَ فِكرةَ الخُروجِ منها بسُهولة، و سيكونُ التَغييرُ بالنسبةِ إليهِ شَبَحًا مُخيفًا، يَشعرُ أنهُ يَخونُ تلك الطُقوسِ التي اعتادَ عليها لسَنَوات، فيؤثِرُ أن يَبقى مَكانَه، و يُراقِبُ الحياةَ من النافِذةِ و هي تَفوتُه.
كما قلتُ لكم، الشَجاعةُ ليسَت ضِدَّ الخَوف. كما أنه لا يوجَدُ إنسانٌ جَبانٌ تمامًا و لا إنسانٌ شُجاعٌ تمامًا. ففي داخلِ كلٍّ منّا يَتَنازَعُ هذانِ العُنصُرَين: الشجاعةُ و الخَوف. في أعماقِ كلٍّ منا هناكَ إنسانٌ شُجاعٌ مِقدام و آخرَ خائِفٌ جبان، تمامًا كَنِزاعِ الخَيرِ و الشَر و نِزاعِ الفَضيلةِ و الرَذيلة. ليس هناك إنسانٌ شُجاعٌ دائمًا أو جَبانٌ دائمًا، بل إن كل كَفّةٍ تَرجَحُ في مَواقِفَ مُعيَّنة، فأحيانًا يَغلِبُ على الإنسانِ جانِبُ الشَجاعة، و أحيانًا أخرى يَغلِبُ عليه جانبُ الخَوف، و هذا الأمرُ عائِدٌ إلى مَصفوفةِ قيَمِ كل شَخصٍ و أولَوياته.
الحَقيقةُ هي أن الشجاعةَ كامِنةٌ داخِلَ كل واحدٍ ما، لكنها تَجلِسُ في المقعَدِ الخَلفي في مُعظَمِ المَواقفِ و الأحداث. نحنُ من نَسمَحُ للخوفِ بالجُلوسِ على مِقعَدِ السائقِ و تَوَلّي القيادة، و بإمكانِنا نحنُ أن نُبَدِّلَ الأماكِنَ و نُجلِسَ ذلك الخوفَ في المِقعَدِ الخَلفي. سيكونُ الخوفُ مَوجودًا دائمًا، سيُرافِقُنا دائمًا في كل تَجربةٍ جديدةٍ أو حَدَثٍ خارجٍ عن المألوف، لكنهُ منذُ اليومِ لن يَجلِسَ في الأمام، لن يَتَولّى القيادة، سيَكتَفي بمُراقَبَتِنا و نحن نَقودُ بسُرعةٍ جُنونيةٍ لنَقفِزَ في تلك التَجربةِ الجديدة. سيُراقِبُنا و نحن نَخرجُ من تلك الشَرنَقةِ الضَيقةِ لنَفرِدَ أجنِحَتَنا و نُحَلِّقَ في الفضاءِ الواسِع.