بقلم: د. خالد التوزاني
تشكل الدبلوماسية الثقافية، بشقيها الرسمي والموازي، واجهة رئيسية من واجهات تعزيز العلاقات بين الدول وتكريس قيم التواصل والانفتاح على الآخر.
لقد نجح المغرب في خلق نمط من الدبلوماسية تأخذ بعين الاعتبار تكامل مختلف المجالات؛ الثقافية والاقتصادية والسياسية والاستراتيجية، لتحقيق استقرار دائم وتنمية شاملة مع حماية المكتسبات، وترسيخ الوحدة الترابية للمملكة، وتحصين الهوية الدينية والوطنية، ضد كل أشكال الاختراق أو الإساءة، فضلا عن تعزيز الانفتاح والانخراط الفاعل في المحيط الإقليمي والدولي، وقد أسهمت هذه الدبلوماسية بشكل واضح في تعزيز الدفاع عن القضية الوطنية، وذلك عبر جبهات متعدّدة؛ كالمؤتمرات والندوات التي تُقيمها المراكز والجمعيات في عدة مدن مغربية، ويشارك فيها مثقفون من موريتانيا والجزائر وعديد الدول الإفريقية والعربية. وأيضاً إصدار الباحثين المغاربة لعدد من المؤلفات الفردية والجماعية التي تسلط الضوء على جوانب من عدالة القضية الوطنية، سواء من الناحية التاريخية أو الأدبية أو الفنية أو غيرها من مجالات البحث والتأليف والنشر.
وبخصوص تجليات الدبلوماسية الثقافية في ما يخص علاقة المملكة المغربية بعمقها الإفريقي فقد دشنها جلالة الملك محمد السادس نصره الله، من خلال زياراته الميدانية المتعددة نحو الدول الإفريقية، حيث توّجت جهوده حفظه الله بعودة المملكة إلى البيت الإفريقي، وتحقيق مكاسب جديدة في ملف الوحدة الترابية للمملكة، كما تجلّت هذه الدبلوماسية أيضاً منذ قرون مضت، من خلال البعد الروحي والديني للمغرب عبر الطرق الصوفية المغربية التي انتشرت في ربوع إفريقيا والعالم، وخاصة الطريقة التيجانية، التي أسسها الشيخ أحمد التيجاني دفين مدينة فاس، حيث أسهمت هذه الطريقة في تقوية العلاقات الروحية بين المملكة وعدد من البلدان الإفريقية، كما أسهمت الجامعة المغربية في تعميق ارتباط المغرب بعمقه الإفريقي من خلال وحدات البحث والتكوين، واستقبال الطلاب الأفارقة، وبذلك أسهمت هذه الدبلوماسية في خدمة القضية الوطنية، وتمهيد الطريق نحو جهوية موسعة ومتقدّمة، عجّلت بانتقال المغرب من النموذج التقليدي في التنمية، إلى نموذج حداثي جديد وشامل، ينهل من الهوية الدينية والوطنية ومن مقومات الحضارة المغربية أسُسه ومرتكزاته.
سجلت قضية الصحراء المغربية خلال السنوات تطورات إيجابية تمثلت أساسا في فتح العديد من الدول الإفريقية لقنصليات عامة لها في كل من مدينتي الداخلة والعيون، في تكريس لسيادة المغرب على صحرائه.
ومن الأكيد أن هذه التطورات تعكس إيمان تلك الدول الإفريقية بعدالة قضية الصحراء المغربية، ورغبتها في دعم المغرب بشكل مباشر، من أجل إنهاء النزاع المفتعَل، خاصة بعد عودة المغرب إلى بيته الإفريقي، وتزايد الوعي بضرورة النهوض بهذه القارة، واستثمار مواردها في التنمية ومواجهة التهديدات الجديدة كالأوبئة والتغيرات المناخية والتطرف والعنصرية، كما تدل أيضاً على نجاح المغرب في التعريف بقضيته العادلة، وفي الآن نفسه تعني كذلك تراجع خصوم وحدة المغرب وانهزامهم أمام الانتصارات الدبلوماسية المتوالية التي يحقّقها المغرب مرة تلو المرة، كما تدل أيضاً على نهاية أطروحات الانفصال وعزلتها.
لابد من الإشارة إلى الجهود الكبيرة والمتواصلة التي تقوم بها الدبلوماسية الثقافية، تنفيذاً للتوجيهات الملكية السامية، حيث دعا جلالة الملك محمد السادس نصره الله في أكثر من خطاب، إلى انخراط جميع مكونات المجتمع المغربي في التعريف بقضية الوحدة الترابية للمملكة، وفتح جسور التواصل والحوار مع فعاليات المجتمع الدولي من أجل التمهيد للحلّ السّلمي، الذي يحقق استرجاع السيادة المغربية الكاملة على حدوده في الصحراء المغربية، دون إراقة دم واحدة، أو قطعية رحم، على الرغم من أطروحات الانفصال التي تضعف يوماً بعد يوم، أمام الانتصارات الدبلوماسية المتواصلة والتي يحققها المغرب في صحرائه، وأمام نجاح أوراش التنمية والتحديث والبناء والتشييد، التي تعرفها أقاليمنا الجنوبية، ثم أيضاً أمام حِكمة وتبصّر هذه الدبلوماسية التي اختارت الحوار العقلاني والعمل الثقافي والإنساني النبيل، دون أي إساءة للآخر، ولو كان عدواً يكيد للمغرب ويفتعل المشاكل، ولعل ذلك هو سرّ ريادة بلدنا في مجال التواصل الدبلوماسي، الذي يستحضر البعد الاستراتيجي في الحوار، ويحافظ على أواصر الصداقة والود التي تجمعه بمعظم دول العالم، إيماناً بعدالة قضيته، وحرصاً على ضبط النفس، دون أي انجراف وراء الاستفزازات المتكرّرة لبعض الانفصاليين المُغرَّر بهم، والذين سارع الكثير منهم إلى العودة إلى أحضان وطنهم المغرب، معبّرين عن الولاء للمملكة المغربية وتجديد عهد البيعة للملك، ولم يعاملهم المغرب بالانتقام أو الجفاء، وإنما كان بهم رحيماً، مثلما عبّر عن هذه الروح السامية، باني المغرب جلالة الملك الحسن الثاني طيّب الله ثراه، حينما قال قولته المشهورة: “إنَّ الوطنَ غفور رحيم”، ولا شك أن هذه هي أرقى دبلوماسية يمكن أن تُحقِّقَ بالرحمة والإحسان واللاعنف ما لا تُحققه أقوى الأسلحة، ولذلك لم يتربّع الملك على العرش فقط، وإنما يسبقه التربّع على عرش قلوب المغاربة، كما قال شاعر الحمراء محمد بن إبراهيم المراكشي :
ملكٌ تربَّعَ فـــــــوق عرش قلوبنا
قبل العُروجِ لعَرشِهِ المنصُـــــوب
افتتحت دولة الإمارات العربية المتحدة قنصلية عامة بمدينة العيون، وهي أول دولة عربية تقوم بهذا الأمر، قبل أن تتبعها دول أخرى.
ولم يكن من باب الصدفة أن تكون الإمارات هي أول دولة عربية تفتح قنصلية عامة لها في مدينة العيون المغربية، فهذه الدولة يقوم مشروعها المجتمعي والتنموي على التسامح، وهي بذلك تتقاطع مع المملكة المغربية في ريادة التعايش والسلام، ولذلك لم تتردد في دعم وحدة المغرب، ونصرة قضيته الوطنية، ولا شك أنَّ الدبلوماسية الثقافية للباحثين المغاربة قد كان لها دور أساسي في هذا الدعم، فيكفي العودة إلى مشاركات المغاربة في الحياة الثقافية في الإمارات، لنجد حجم الحضور المغربي الوازن والمشرّف، مما جعل التعاون الدبلوماسي بين المغرب والإمارات، تحصيل حاصل، وثمرة عقود من العمل الثقافي النبيل.