بقلم: د. خالد التوزاني
يعيش المغرب في الآونة الأخيرة على إيقاع تنزيل معالم الدولة الاجتماعية، كما حدد سماتها جلالة الملك محمد السادس نصره الله في جملة من الخطابات الملكية السامية، مؤكداً ضرورة إيلاء العنصر البشري أهمية قصوى في التخطيط والتدبير، بتوجيه جهود الدولة ومؤسساتها نحو خدمة المواطن وتلبية احتياجاته الأساسية، مما يقتضي النهوضبأوضاع المجتمع المغربي وتحقيق إقلاع حقيقي في التنمية والتحديث، وفق رؤية متوازنة مدمجة ومستدامة ومتكاملة، تعيد الاعتبار للإنسان المغربي ثقافةً وهويةً وحضارةً، كما تتأسّس على خطة استباقية واستشرافية بعيدة المدى، تُبشّر بانتقال المغرب من دولة نامية إلى نادي الدول المتقدمة، وتعكس هذه الروح الجماعية التي تطبع تنزيل معالم الدولة الاجتماعية في المغرب إحساساً بالمسؤولية ورغبة ملحة في ربح رهان التنمية، تحقيقاً لأمل باني المغرب جلالة الملك الحسن الثاني طيب الله ثراه، عندما أعلن جهاد التنمية، واعتبره الجهاد الأكبر، بعد تحقيق الاستقلال، ثم تحقيقاً لطموح محرر المغرب جلالة الملك محمد الخامس قدس الله سره، عندما كافح ضد الاستعمار وناضل من أجل مغرب حر وشعب كريم، وهو أيضاً ما دلّت عليه جملة من الأحداث الوطنية وعلى رأسها وثيقة المطالبة بالاستقلال التي كانت عام 1944. ومنذ ذلك العهد كافح المغرب ملكاً وشعباً لربح معركة الاستقلال والتنمية والتحديث، عبر مسار طويل من الجهود والتضحيات، حيث يحتفل المغاربة في 11 يناير 2024 بالذكرى الثمانين لوثيقة المطالبة بالاستقلال. ونستعيد في هذا المقال بعضاً من دلالات هذه الذكرى الوطنية الخالدةورمزيتها في ذاكرة المغرب والمغاربة، وكيف تحوّلت من جهاد المقاومة إلى بناء ركائز الدولة الاجتماعية في عهد جلالة الملك محمد السادس نصره الله وأيّده.
قد يتبادر إلى الذهن، وخاصة عند الناشئة والشباب، تساؤل غريب، لكنه مشروع وقائم، وينبغي السماح بإلقائه ومناقشته: وهو: ما فائدة الاحتفاء بذكرى تقديم وثيقة المطالبة بالاستقلال؟ لقد احتفلنا بعيد الاستقلال، وهو كاف؟ ما الداعي لإحياء ذكرى تقديم وثيقة معينة مثل وثيقة المطالبة بالاستقلال؟
إن الاحتفاء بالأحداث الوطنية، عموماً، ليس مقصوداً لذاته، وإن كان مطلوباً باعتباره جزءاً من الذاكرة الجماعية لأمة من الأمم، وإنما المراد منه هو إحياء القيم السامية التي صنعت بطولات أمة وكانت وراء نجاح التنموي، بإمكانات بسيطة وبأعداد قليلة يحقق البعض نتائج كبيرة ويصنع المعجزات، وكم رأينا في سير أبطال المقاومة المغربية رجالاً لا يملكون إلا روحاً عالية من التضحية والأمل ومن الصمود والصبر والكفاح دون أيّ خوف من الموت أو السجن أو التعذيب والنفي والتغريب، وقد كانت كلماتهم مؤثرة في الناس تقذف الرعب في قلوب أعداء المغرب من المستعمرين والمتربصين بالمغرب الدوائر في الداخل والخارج، هؤلاء الرجال من المقاومين المخلصين هم الذين كتب التاريخ اسمهم بمداد من الفخر والاعتزاز، فقد كانوا وراء أحداث وطنية غيّرت مجرى التاريخ المغربي، ولذلك اليوم ونحن نستعيدهذه الملاحم الوطنية وأقطابها الخالدين وأمجاد الأمة المغربية وبتاريخها النضالي المجيد فإننا ننقل قيم الوطنية والكفاح من أجل الوطن، ننقل ذلك إلى الناشئة والشباب والأجيال الجديدة الصاعدة،لترسيخ معاني الانتماء للوطن، وحفاظا على الذاكرة التاريخية، وذلك انسجاماً مع التوجيهات الملكية السامية لصاحب الجلالة الملك محمد السادس، نصره الله وأيده،والذي أكد في أكثر من مناسبة على ضرورة إيلاء المزيد من العناية لتعزيز البعد الوطني في السلوك عبر استحضار إشراقات التاريخ الوطني وتثمين الرصيد التراثي المغربي والتعريف برموزه والإشادة بأبطاله والتشبّع بقيمه والتزوّد بمعانيه في مسيرات الحاضر والمستقبل.. ويتعلق الأمر أيضاً ببناء نموذج تنموي جديد ومبتكر، يستلهم هذه القيم الوطنية من أجل مغرب الغد، ومن ذلك ما فتحه المغرب في فترة جائحة كورونا، مثل مشروع “صُنِع في المغرب” وأيضاً نستحضر تللك الاختراعات الطبية والصحية التي أنتجها المغاربة في هذه الفترة، واحتضان المغرب للأبحاث الدولية الخاصة بلقاء كورونا، ثم تصنيع اللقاح، وما يرتبط به من الصناعات الطبية، خاصة مع الجهوية الموسعة التي منحت لكل جهة كلية في الطب ومراكز بحث جهوية، أعادت الاعتبار للكفاءات الوطنية، دون إغفال دور مغاربة الخارج، الذين يمثلون خيرة أبناء الوطن، من كفاءات وأطر لها مكانة رفيعة في المجتمعات الغربية، تلك الكفاءات التي أثبتت وطنيتها وإخلاصها للمغرب عبر التعبير عن افتخارها بالانتماء، ودعمها لكل المبادرات المغربية، وخاصة صندوق وباء كورونا الذي أطلقه جلالة الملك محمد السادس في بداية انتشار الجائحة، وكانت لمغاربة العالم إسهامات كبيرة فيه.
بالعودة إلى القيم السامية التي تقف وراء حدث الحادي عشر من يناير 1944، يأتي احتفاء المغاربة بهذا الحدث التاريخي البارز وفاء برجالات الوطنية والشهامة، وتمجيدا للبطولات العظيمة التي صنعها أبناء هذا الوطن بروح وطنية عالية وإيمان صادق وواثق بعدالة قضيتهم في تحرير الوطن، مضحين بالغالي والنفيس في سبيل الانعتاق من الاستعمار وصون العزة والكرامة. هذه الحمولات الوطنية والرمزية، وقيم الصمود والتضحية والتعبئة الشاملة والوحدة من أجل وحدة الوطن، وتماسك المجتمع المغربي ملكاً وشعباً، دفاعاً عن الثوابت الوطنية والمقدسات الدينية وعلى رأسها مؤسسة إمارة المؤمنين والمذهب المالكي والعقيدة الأشعرية والسلوك الجنيد.
لقد وقف المغاربة ملكاً وشعباً، منذ أقدم العصور، بعزم وثبات وإباء، في مواجهة أطماع الدول والإمبراطوريات التي أرادت التوسع في المغرب، منذ الرومان و الفينيقيين والقرطاجيين، ومقاومة العثمانيين ورد الهجمات الصليبية ودفع الأوروبيين الذين حاولوا احتلال الشواطئ المغربية والمدن الساحلية، حيث لم يدخر المغاربة أي جهد في الدفاع عن وحدة الوطن واستقلاله،وخاصة في مواجهة الاستعمار الفرنسي والاسباني الذي احتل بعض أجزاء من التراب الوطني منذ بدايات القرن الماضي فقسم البلاد إلى مناطق نفوذ، وإلى اليوم هناك إلحاح من المغرب لتعزيز سيادته على جميع أراضيه وخاصة الصحراء المغربية التي تعتبر غصة في حلق أعداء المغرب.
وهكذا فإن وثيقة المطالبة بالاستقلال، ليست مجرد وثيقة عادية، بل تعكس وعي المغاربة، الوعي الحضاري بالتعبير عن رفض الاستعمار، تعبيراً بالسلاح وبالقلم أيضاً، أي الدفاع عن مطلب الاستقلال، بكتابة عريضة المطالب التي وقّع عليها نخبة من المغاربة، في وقت لم يكن العالم يعرف مثل هذا الشكل النضالي، مما كانت له انعكاسات على سياسة المستعمر الذي شعر بالحرج أمام باقي الدول الأوروبية ليعترف باستقلال المغرب بعد ذلك بناء على الضغط الدبلوماسي الناتج عن هذه الوثيقة، خاصة وأن الموقعين عليها أسماء من خيرة النخب المغربية في عدة مجالات فكرية واجتماعية واقتصادية وسياسية.
لقد وقع تحوّل في أشكال النضال ضد المستعمر، فمن الانتفاضات الشعبية المباشرة في الميدان، إلى خوض المعارك الضارية بالأطلس المتوسط وبالشمال والجنوب إلى مراحل النضال السياسي كمناهضة الظهير الاستعماري التمييزي في 16 مايو سنة 1930، وتقديم مطالب الشعب المغربي الإصلاحية والمستعجلة في 1934 و1936، ثم أخيراً تقديم وثيقة المطالبة بالاستقلال في 11 يناير سنة 1944. مع ما رافق كل ذلك من أشكال نضالية أخرى اقتصادية واجتماعية وثقافية.. عجّلت بارتفاع منسوب الوعي عند المغاربة بضرورة تعميم المقاومة، وهو ما يفسّر سرعة القضاء على المستعمر، واسترجاع السيادة المغربية، بخلاف بعض الدول الأخرى التي بقي فيها الاستعمار الفرنسي ثلاثمائة عام مثل السنغال، و125 سنة مثل الجزائر.
وقّع على وثيقة 11 يناير ستة وستون مغربياً، وتم اختيار أربعة وفود لتقديمها في تاريخ واحد موحد، لكلمن السلطان أولاً ثم الاقامة العامة والمفوضية الأمريكية والمفوضية الانجليزية ثانياً. ويوم الحادي عشر يناير كان اختياراً مقصوداً، فهو يوم جرت العادة فيه أن يستقبل فيه السلطان محمد بن يوسف أسبوعياً مستشاراً فرنسياً معتمداً كواسطة بينه وبين الاقامة العامة، حيث بعد استقبال السلطان للمستشار الفرنسي أطلعه بأنه توصل بعريضة شعبية تطالب بالاستقلال وأمره بإبلاغ المقيم العام بذلك.
لم يكن تقديم هذه الوثيقة أمراً سهلاً، بل شكّل مخاطرة واضحة، حيث لجأت سلطات الاحتلال إلى لغة التهديد والتخويف بل واعتقال بعض الشخصيات مثل: أحمد بلا فريج ومحمد اليزيدي، وذلك بعد حوالي أسبوعين عن تقديم الوثيقة، مما أدى إلى اندلاع مظاهرات شعبية حاشدة شملت عدة مدن مغربية وعلى رأسها: الرباط وسلا وفاس بالخصوص لأنها المكان الذي خرجت منه هذه الوثيقة، وهو ما واجهته سلطات الحماية بقمع واسعوعنيف واعتقالات كثيرة، لكنها لم تفلح في منع المغاربة من الاستمرار في الاحتجاج والمقاومة بشكل مكثف ومتواصل،وقد رافق هذه الأحداث عودة علال الفاسي من منفاه في الكًابون، وإلقاء السلطان جلالة الملك محمد الخامس، طيب الله ثراه، لخطابه الشهير في طنجة عام ألف وتسعمائة وسبعة وأربعين والذي أعلن فيه صراحة انحيازه الى صف الوطنيين المطالبين بالاستقلال وجدّد دعوته لطرد المستعمر.
واليوم بعد هذه العقود الطويلة من انتزاع المغرب لاستقلاله، وهو يحيي هذه الذكريات الوطنية، وعلى رأسها الذكرى 80 لتقديم وثيقة المطالبة بالاستقلال، فإنه يواصل التحدي في ربح رهانات جديدة، تتمثل في بناء الدولة الحديثة على أسس جديدة، فكان إصلاح الدستور وكان تشييد المؤسسات وتطوير القوانين وإطلاق المبادرات الاجتماعية، تحت قيادة السلطان جلالة الملك محمد السادس حفظه الله، ومن أكبر المشاريع التي أطلقها جلالته والتي لها صلة بالتحديات الكبرى التي يواجهها المغرب في محيطه الإقليمي والدولي تأتي المبادرة الوطنية للتنمية البشرية، ثم العودة إلى البيت الإفريقي، ثم أخيراً النموذج التنموي الجديد.. إلى جانب الورش الاجتماعي الكبير الذي يقوده جلالته ويشرف على تنزيله، والذي استطاع نقل المغرب من دولة نامية، إلى دولة اجتماعية تسعى لربح رهان التنمية الشاملة.
إن وثيقة 11 يناير تتكرّر اليوم مع إصرار المغرب على تحقيق الاكتفاء الذاتي بل وتوجيه كثير من صناعاته نحو التصدير، فإذا كانت وثيقة 11 يناير تمثل مطلباً للاستقلال ونيل الحرية، فاليوم نشهد مطالب لتحرير الاقتصاد الوطني من كل تبعية أو تخلف عن الركب العالمي، ونعرف تنزيل مشاريع تحقيق استقلال المغرب في صناعة التنمية وفق أسس محلية وجهوية تعيد الاعتبار للكفاءات الوطنية.. وتنهل من الهوية والتراث والأصالة المغربية الكثير من مقوماتها، ومن شأن هذه الروح العالية في الإصرار على تحسين الوضع الاجتماعي المغربي، أن تمنح لبلدنا المزيد من الثبات والاستقرار والأمن، والأمل في مغرب غد يسع الجميع، في ظل وحدة وطنية وسلم اجتماعي تحت قيادة رشيدة لمولانا محمد السادس حفظه الله وولي عهده المحبوب الأمير مولاي الحسن حفظه الله.وإن مناسبة ذكرى تقديم وثيقة المطالبة بالاستقلال، فرصة لتعزيز قيم الولاء للوطن وللملك، والتعبير عن التشبث بالثوابت المغربية، وفي الوقت نفسه الانخراط الواعي في مشاريع تعزيز بناء الدولة الاجتماعية.