حوار : شريف رفعت
الأديب المصري الدكتور محمد المنسي قنديل قامة أدبية مميزة، له العديد من الروايات و المجموعات القصصية و المقالات السياسية و الاجتماعية، في أحد مقاهي وسط البلد بمونتريال كان لنا معه هذا اللقاء.
س: ما علاقتك بمدينة مونتريال و ما هو انطباعك عنها؟
ج: أحب مونتريال لكني لا أجد نفسي فيها، يعجبني جمالها و بهاؤها بالذات في الصيف حيث تبدو مثل فيلم ملون بألوان طبيعية جميلة، بينما هي في الشتاء فيلم قديم أبيض و أسود. لكن مشكلتي أني لم أستطع العثور على عمل فيها بحيث يكون مصدر دخل لي، حاولت عدة مرات لكني لم أجد شيئا ناجحا. بسبب ذلك لم أستطع حسم أمري بعد بالبقاء الدائم فيها رغم أن هذه هي المرة الثانية التي أحضر فيها لإقامة طويلة نسبيا، فأنا أريد الاستقرار في مونتريال لكنها لا تمنحني الأمان الكافي.
س: ماذا عن مدينة المحلة الكبرى؟ هل مازالت لك علاقة بها؟
ج: ظللت أتردد على المحلة بشكل منتظم عندما كان الوالدان على قيد الحياة، لكن بعد وفاتهما قل ترددي و إن كنت من وقت لآخر أزور أختين لي هناك بالإضافة إلى العديد من الأصدقاء، و لي بها ذكريات عديدة بعضها متعلق بالمستشفى التي كنت أعمل بها، و إن كانت صعوبة المواصلات في أيامنا هذه تقلل من رغبتي في السفر لهناك، عموما المحلة دائما في مخيلتي و تجدها في أغلب أعمالي، رواية إنكسار الروح مثلا كل أحداثها في المحلة، في “أنا عشقت” ورد ذكر حارة اليهود الموجودة بالمحلة، عموما عندما أود أن أذكر مدينة مصرية في أحد أعمالي تكون المحلة الكبرى هي مرجعي.
س: تتميز كل رواياتك بالبدايات القوية، هل هذا متعمد؟ و هل يلجأ كتاب آخرون لهذا التكنيك؟
ج: طبعا مـُتـَعـَمـَد فهذا يجذب القارئ و يأسره من الصفحات الأولى، لأن وراءه شئون أخرى لذلك يجب الاستحواذ على اهتمامه، أحد أصدقائي قال لي “أنا أعطي أي عمل أدبي عشرين دقيقة إذا لم يجذبني أتركه”، البعض يقرأ 10 أو 20 صفحة لتقييم العمل و قد يتركوه إذا لم يحز إعجابهم، فمن هذه القراءة السريعة لابد أن تجذب القارئ و تستولي علىه من الصفحات الأولى، و تحـَضـِر نفسك لنهاية قوية أيضا، و المشكلة في أي عمل هي مرحلة الوسط، هل الكاتب قادر على الاستمرار في تصعيد الأحداث و في الإثارة.
س: في أغلب رواياتك توجد ميلودراما، هل هذا مقصود كي يقبل العمل في السينيما أو يتحول لمسلسل تليفوزيوني لاحقا؟ بمعنى أن هناك نظرة تجارية للعمل.
ج: و الله ممكن في اللاوعي، لكن وأنا أكتب لا أضع اعتبارات كثيرة لهذا الموضوع، و الدليل على هذا أن أعمالي التي تصلح أن تكون أفلاما أو مسلسلات معدودة، اثنين أو ثلاثة، بينما الباقي لأنها تاريخية أو لأن أماكنها خارج مصر سيكون تحويلها لأفلام أو مسلسلات مكلف جدا، مثلا “قمر على سمرقند” أو “كتيبة سوداء” أحداثهما تجري خارج مصر و في أماكن غير تقليدية، و بالتالي إنتاجهما كأفلام سيكون مكلفا جدا، فأنا لا أكتب أعمالا “على القد”، بينما هناك البعض الذي يفعل ذلك بحيث يهدف إلى تحويل العمل لاحقا لفيلم، فتراهم يكتبون العمل كمشاهد سينيمائية، فأنا أترك نفسي على راحتي و لا أضع اعتبارات الإنتاج.
س: سؤال تقليدي، أي رواياتك أقرب لنفسك؟
ج: “إنكسار الروح” لأنها أول رواياتي، و كأغلب الكـُتاب الرواية الأولى لها مكانة خاصة، بالنسبة لي فيها نقلة في حياتي ككاتب، لأنها نقلة من القصة القصيرة و الكتابات المترددة إلى عمل طويل يدل لحد ما على نضج الكاتب، البعض يقول أن كل كاتب يكتب عملا واحدا فقط في حياته الأدبية هو الأشهر و الأجود، ينطبق عليّ هذا الكلام في “إنكسار الروح”، حتى بعض أعمالي الأخرى التي كتبتها لاحقا أخذت بعض عناصرها من “إنكسار الروح” روايتي التأسيسية، و البعض يعتبر أنها الرواية الوحيدة التي كتبتها.
س: لا أعتقد هذا فهذه مبالغة، لكن أنا يعجبني في كتاباتك تعدد الأماكن و الأزمنة.
ج: هذه كانت نصيحة نجيب محفوظ لنا في بداية حياتنا الأدبية، قال لنا “يجب أن تتسع “فـَرْشـِـة” الرواية العربية و لا تقيدوا الزمان و المكان”.
س: مع أنه هو نفسه لم يفعل ذلك!
ج: بالضبط، كانت رواياته عن الحارة المصرية التي خلقها هو و هي حارة إلى حد ما غير واقعية مليئة بالفتوات و الدراويش و العاهرات، عالم خلقه لنفسه، و قد لاحظ هو أن بعض الكتاب الذين أتوا بعده مثل إسماعيل ولي الدين و أسامة أنور عكاشة قلدوه في التمسك بالحارة و بالقاهرة و التي هي من وجهة نظري ليست قاهرة حقيقية، لكنه نصحنا نحن من كنا وقتها مبتدئين “ابحثوا عن عوالم أخرى، مكان آخر و زمان آخر”، أنا اتبعت النصيحة و خرجت عن الثوب أو الحدود التي كتب خلالها نجيب محفوظ، فتجد عندي أحداثا تدور في المكسيك و آسيا و أخرى في فترات تاريخية مختلفة.
س: ظاهرة كثرة الكـُـتاب و دور النشر، ما تقييمك لها، هل تفيد الأدب أم أنها ظاهرة سلبية؟
ج: عندما كنا صغارا كان الوحيد الذي له قدرة على النشر هي الأجهزة الحكومية و كانت بتطلع عنينا و نظل ندور وسط المكاتب ناخذ عملنا الأدبي من موظف لموظف البعض يقبلنا و البعض يرفضنا، الآن و مع تقدم تكنولوجيا الطباعة، الكتاب الشبان أصبحوا أكثر جرأة و لم يعودوا يعولون على الأجهزة الحكومية، و التي أصبحت ايضا جودة مطبوعاتها متواضعة بينما وسائل النشر الغير حكومية طباعتها أفضل بكثير، فهؤلاء الأولاد قسموا الأدوار بينهم البعض بيكتب و البعض بينشر و ناس بيوزعوا و لا يعترفون بأجهزة الطباعة و النشر الحكومية، فهم يصنعون عالمهم الخاص لأعمالهم، و لهذا توجد غزارة في الإنتاج لوجود غزارة فيما يمكن نشره، في الماضي كانت هناك نصوص كثيرة تموت في الأدراج دون أن ترى النور، الآن نصوص كثيرة تظهر و تطبع و قد يكون بها ما هو قيم، طبعا ممكن في نفس الوقت هناك أعمال تظهر و لا قيمة لها إنما على الأقل الغالبية العظمى تنشر و ترى الشمس، عكس زمان عندما كانت الحكومة و حتى الآن تعطي بالقطارة، يعني الحكومة بتعمل ميزانيات ضخمة للكتب لكن إنتاجها ضئيل، يعني مثلا الهيئة العامة للكتاب و هي مؤسسة ضخمة جدا، مليئة بالمطابع و العمال و الموظفين تنتج من كتابين لثلاثة في اليوم، و هذا يمكن لأي مطبعة صغيرة أن تنتجه في اليوم دون الحاجة لكل هذه الإمكانيات، لذلك الوسائل و الإمكانيات الحديثة حررت عملية الطباعة و التوزيع و النشر، طبعا عند وجود هذا الكم الهائل سيختلط الغث بالثمين، لكن هذا أعطى الفرصة للأعمال الجيدة أن تظهر و تبقى ليس لأن موظفي الحكومة يخدمونها لكن لأن القارئ يطلبها لمعرفته بجودتها، و بذلك أصبحت المنافسة قوية و على أسس سليمة.
س: ما رأي سيادتك في ظاهرة الإمعان و المبالغة في الدعاية لأعمال أدبية معينة عند خروجها للنور، المبالغة في حفلات التوقيع و الاستعانة بنجوم سينيما لقراءة فقرات من الكتاب في حفلات التوقيع و حث وسائل اعلام على الكلام عن الكتاب كل هذا أعتقد أنه مأخوذ عن الغرب هوسه بالدعاية التجارية، ما تقييمك لهذه الظاهرة.
ج: أرى ان هذه الظاهرة قاصرة فقط على الكتاب المشهورين نجوم التوزيع، في الواقع هي قاصرة على علاء الأسواني فقط.
س: عندي فكرة يا دكتور أن بعض الأدباء الشبان بدءوا في تقليده، من حوالي سنة أقام أحدهم حفل توقيع في أحد النوادي و كان هناك رسم دخول لحفل التوقيع و الدعاية دفعت المئات للحضور و الدفع، أعتقد أن أحمد مراد أيضا بيلجأ لهذه الأساليب.
ج: هو عيب هذه الظاهرة أنها أعطت قوة تجارية للرواية على حساب الفنون الأخرى، مثلا هذا اضعف فن القصة القصيرة، و اضعف جدا من الشعر بحيث أن سوقهم أصبح ضيقا، و معظم الناشرين يرفضون الآن نشر هذين العملين و يركزون على الرواية، بسبب الدعاية المكثفة لبعض الروايات مما يجعلها أعلى طلبا تجاريا، و أنا نفسي تعرضت لذلك فقد أخذت لدار الهلال مجموعة قصصية فنصحوني بأن أربط القصص ببعضها و أحولها لرواية، و هذه الظاهرة في منتهى الخطورة لأنها تضعف فن مثل القصة القصيرة و الذي هو شكل بديع من أشكال التعبير الأدبي تمتاز بالرشاقة و الذكاء، و من يكتبها يدخل لها من مدخل غريب و متفرد غير كاتب الرواية، بعض النقاد بيعتبر أن الفن القصصي الحقيقي هو القصة القصيرة بينما الرواية فن تطبيقي على الواقع و المجتمع، و أرى أن فنون التعبير الأدبي المختلفة يجب أن تتجاور و تتعايش.
س: أنت أجبت ضمنيا على سؤالي التالي و هو هل قضى فن الرواية على فنون التعبير الأدبي الأخرى.
ج: لا شك ان فن الرواية بالدعاية و النجاح التجاري النسبي أضعف باقي الفنون، سبب آخر لذلك هو تحويل الرواية إلى عمل سينيمائي أو مسلسلات، و هذا نادر حدوثه مع القصص القصيرة و إن كان هناك عمل واحد يمكنني تذكره عن مسلسل اسمه “نصيبي و قسمتك” عبارة عن مسلسل مبني على مجموعة قصص قصيرة.لكن في الغالب الرواية هي مايمكن تحويله لفيلم.
س: أعتقد أن بعض الروايات القصيرة أو النوڨيلا تحولت لأفلام ناجحة مثلا ” أكان لا بد يا ليلي أن تضيئي النور” ليوسف إدريس تحولت لفيلم تلفزيوني ناجح.
ج: فعلا لكن هذا كان فيلما تليفزيونيا قصيرا نسبيا، ثم إن يوسف إدريس كاتب غني أعماله مليئة بالتفاصيل و التي يمكن لكتاب السيناريو أخذها و البناء عليها، و لا تجد كتابا كثيرين مثل يوسف إدريس.
س: هل موضوع طغيان الرواية على الأشكال الأدبية الأخرى مفروض يـُقـَوّم عن طريق تدخل ما من جهات مهتمة بالأدب أم نتركه يقوم نفسه إذا كان هناك فرصة للتقويم عن طريق العرض و الطلب و قوة العمل الأدبي.
ج: الكتابة عمل إبداعي فردي لذلك صعب ان تتدخل جهة ما لتشجيع نوع معين من الأعمال الفنية، فمهما تدخلت أي جهة الأساس هنا القراء ستقبل العمل أم لا، موضوع قبول الناس للأعمال الأدبية موضوع شائك لأن ليس هناك معايير لقياس جودة الأعمال الأدبية، فهناك أعمال جيدة في رأي النقاد و لكنها لا تبيع، مثال حدث معي في معرض الكتاب الأخير، حيث ذهبت لحفل توقيع كتابي الأخير “كتيبة سوداء” فوجدت أن أغلب رواد الحفل يشترون كتابي القديم “قمر على سمرقند”، رغم أنه ظل مدة في الأسواق لا يبيع كما يجب، حتى اكتشفه الناس أخيرا، و هذا يحدث حتى في الخارج، مثلا ماركيز كتب مئة عام من العزلة و لم تنجح تجاريا في البداية حتى فاز بجائزة نوبل و قتها اكتشف القراء الرواية و بدءوا في شرائها.
س: هل الأدب قادر على تغيير أو على الأقل المساهمة في تغيير المجتمع؟
ج: هكذا يجب أن يكون، تاريخيا الثورة الفرنسية مثلا أشعلها و مهد لها كتاب مثل فولتير و جان جاك روسو.
س: عن طريق مقالات أم روايات؟
ج: عن طريق كتب فكرية، فهكذا يجب أن يكون الوضع لكن في مصر و للأسف بسبب انتشار الأمية التي تبلغ 40% هؤلاء الذين لا يجيدون الكتابة و القراءة معزولون عن العالم و لا يستطيعون حتى قراءة الجرائد و المجلات. و بالتالي لا توجد قنوات للتواصل معهم، يجب أن يكون الناس على نفس الخط كي يمكنهم التأثر بالشيء، ممكن أقول أن الأعمال الأدبية جايز يكون لها بعض التأثير إذا أخذت صور فنية أخرى يتقبلها العامة مثلا الرواية عند تحولها لفيلم أو القصيدة عند تحولها لأغنية، حيث هناك وسيلة أخرى توصلها للجمهور.
س: لكن يا دكتور عموما من يقومون بالتغيير في المجتمع هم ال 10% أو ال 15% من النخبة و هؤلاء بالطبع يجيدون القراءة.
ج: هذا لا ينفي ضرورة وصول العمل للجمهور كي يحركه لو ترجع لمثال الثورة الفرنسية كانت هناك خطب تلقى في الجمعية الوطنية على مستوى عالٍ من الفكر و كانت الجماهير تقبلها، لكن تأثير الكلمة المطبوعة في مصر ضعيف بسبب الأمية، مما جعل الثقافة في عرف البعض عموما شيئا ثانويا لا يقدر عليه الكثيرون.
س: هل هناك ـ في عالمنا العربي ـ كتب لتعليم فن الكتابة الأدبية.
ج: لا، لا توجد، هناك كتب نقدية أو تقييم تطبيقي لعمل أو لمجموعة أعمال، بمعنى نقد تطبيقي، لكن لا يوجد تنظير لتعليم الكتابة الأدبية، و العقل العربي عموما يميل لعدم التنظير، هو حسي يقبل البحوث التطبيقية لكن لا يقبل كتاب عن كيف تكتب أو كيف تفكر أو كيف تـُعـَبـِر.
س: ما هي قراءاتك سواء عموما أو في الفترة الأخيرة
ج: أنا عموما أقرأ أكثر من شيء في نفس الوقت، في السنة الأخيرة و من خلال تحكيمي لجائزة ساويرس الأدبية، قرأت العديد من الأعمال المصرية الصادرة أخيرا سواء روايات أو قصص قصيرة، و هذا اعتبره تغييرا إيجابيا حيث كنت اقرأ من قبل أعمالا أجنبية سواء بالإنجليزية أو مترجمة للعربية، فموضوع التحكيم هذا أجبرني على قراءة منتظمة مكثفة لأعمال مصرية، فقرأت لأحمد مراد و طارق إمام و أحمد عبد اللطيف و محمد ربيع. أيضا أقوم بالتحكيم لجائزة الطيب صالح و من خلالها أقرأ الأعمال العربية المقدمة للجائزة، فقرأت مثلا لوسيني الأعرج و زياد حموري و غيرهم، أيضا رئاستي لتحرير مجلة إبداع الثقافية عرفني بأدب الشباب الجدد، و الذين أقرأ أعمالهم بانتظام و أرى فيها أقلاما واعدة.
س: نعرف أنك كتبت سيناريو فيلم “أيس كريم في جليم” هل كان هذا هو الفيلم الوحيد الذي كتبت سيناريو له؟ هل ستتكرر التجربة؟
ج: سيناريو هذا الفيلم هو جزأ من تجربة طويلة لي مع السينيما للأسف لم تنجح، كتبت حوالي 6 سيناريوهات، و تعاقدت على بعضها لكنها توقـَفـَت أو ماتت، كان عندي أمل أن يكون لي بصمة في السينيما لكن هذا الأمل لم يتحقق، ذلك بسبب ظروف السينيما المصرية و التي أعتبرها سينيما مريضة و لم تمكنني من مواصلة كتابات السيناريوهات ما عدا “أيس كريم في جليم” و آخر اسمه “فتاة من إسرائيل”. إنما أنا أؤمن أن الكاتب في العالم الثالث عليه أن يجرب و يساهم بقدر الإمكان في جميع الأشكال الفنية.
س: ممكن ندخل في السياسة بعد إذنك، عملية الاستقطاب السياسي الشديدة الموجودة حاليا في مصر ما بين إسلامي و ليبرالي و سيساوي و ثورجي ما هي نهايتها و هل يمكن حلها؟ و هل يمكن لبلد أن يتقدم و يحل مشاكله إذا كان هناك من 10 إلى 15% من اأهله إما إخوان أو أنصار إخوان أو متعاطفين معهم أغلبهم إما مطاردين أو مهمشين أو في السجون؟
ج: مصر في حالة هيجان، الناس كلها تصرخ بصوت عالٍ و لا أحد يسمع الآخر، وهي حالة لن تدوم للأبد، نحن سنصل لنقطة نضوج أرجو أن تكون قريبة، لا يوجد تيار واحد يمكن أن ينقذ البلد بل التيارات الواحدة التي عاصرناها تقود البلد للهاوية، الآن التيار العسكري يحكم البلد، في الواقع يحكمها من يولية 52، هذا التيار لن يفيد مصر، كنت أتمنى ان يكون هناك تيار مدني قوي يعبر عن نفسه من خلال أحزاب قوية و برامج محددة، لكن السياسة في مصر لم تنضج بعد، و لا يوجد تيار مدني قوي ينافس التيار العسكري، الإخوان ظهروا على الساحة لكنهم تيار رجعي يبغي الاستحواذ على مصر لمصلحة الجماعة، نحن نبحث عن طريق لحل الاستقطاب الحاد الذي يمنع مصر من التقدم و التطور، لكن الوضع متجمد، و لا يوجد طريق واضح بعد، لا توجد نغمة صحيحة نسير وراءها، الدور الليبرالي ضعيف جدا، كان في أقصى قوته عندما قامت ثورة 25 يناير، شباب الطبقة الوسطى المثقف المستنير كان يمكنهم دفع التيار الليبرالي لأقصى مداه، لكن إعترضته أطماع الجماعات الدينية و العسكر الذين اعتبروا مصر إرثا لهم، هذين التيارين كانا أقوى من التيار الليبرالي الذي لم يقو على فرض نفسه بالرغم منهما، الآن التيار الديني ضـَعـُفَ و اصبح هزيلا، لكن التيار الليبرالي لم يقو بعد بحيث يقدم البديل.
س: هل هذا الضعف الليبرالي بسبب ضعف القيادات؟
ج: نعم، الأنظمة المتتابعة في مصر حرصت طوال العقود على إضعاف الجانب المدني في حياة مصر، فهناك الرئيس فقط واحد متفرد فرعون ثم مساحة شاسعة من الفراغ بينه و بين القاع، هذه المساحة يجب ألا تكون من الفراغ، مفروض أن يوجد بها أحزاب و قيادات و كوادر، لكن الواقع أن الفراغ موجود و شاسع و رهيب و هذا هو سبب ضعف القيادات السياسية في مصر.
س: ما دور الإعلام في المشهد السياسي؟
ج: الظاهرة الموجودة حاليا على الساحة المصرية أن هناك موجة تعصب شديدة تجتاح البلد، فمن يخرج عن الاجماع العام أو بالأصح إجماع العوام ـ وهم الأقل تعليما و ثقافة ـ و لكنهم الأعلى صوتا و الأكثر ضجيجا، يوجه له هؤلاء العوام قائمة من الاتهامات الجاهزة منها العمالة و الخيانة و كونه طابورا خامسا، هناك مثلا كتيبة من المحامين الباحثين عن الشهرة يرفعون القضايا على كل من يختلف معهم في الفكر و التوجه، و إن كنت لا ألوم عليهم و لكن ألوم النظام الذي يعطيهم هذه الفرصة، فقضاياهم السقيمة تصل للإعلام الذي يردد أسماءهم، و تصدر أحكام إدانة في هذه القضايا المبنية على سوء الظن و سوء النية. لا أدري ماذا جرى للقضاء المصري و الذي يصدر أحكاما غير مقنعة و غير عملية و غير مجدية، مثلا هناك حكم بإغلاق “الفيس بوك” و أحكام بإعدام العشرات.
س: هل تعتقد أن أحكام القضاء مُسَيـَسَة أم أن هناك اعتبارات قانونية نحن المواطنون العاديون لا ندركها؟
ج: القضاء يعرف ماذا تريد السلطة منه و ينفذه دون أن يـُطـْلـَب ذلك منه مباشرة.
س: ما الذي بقى من ثورة 25 يناير؟
ج: بقى البعض مثلي المؤمنون بالثورة، بأنها أهم حدث في حياة مصر المعاصرة، بأنها أحدثت تغييرا في الشخصية المصرية، التي كانت موجودة قبل الثورة، المفكر جمال حمدان شن هجوما شديدا على الشخصية المصرية لأنها طيعة مستكينة و كان غاضبا من البلد الذي له موقع عبقري لكن شعبه ليس عبقريا، عكس لبنان مثلا و التي موقعها غير عبقري لكن شعبها عبقري، بغض النظر عن المقارنة هو محق في نقده، أغلب المصريين كانوا لا يشعرون بأن البلد بلدهم و تركوا الحكم للآخرين للفرعون أو للعسكر. الثورة غيرت من هذا المفهوم عند المصريين عن أنفسهم، غيرت الصورة النمطية السابقة، أصبح المصريون يفكرون بشكل أكثر وعيا، و أدركوا أنهم يستحقون أحسن من واقعهم، كانوا يعتبرون واقعهم السيء من فقر و ذل هو نوع من القضاء و القدر، الآن ـ بعد الثورة ـ يوجد و عي شديد، الوضع السيء الذي به مصر الآن مرحلة مؤقتة ستمر بسبب وعي الشعب، هذا الوعي هو ما خلقته الثورة، و سيقود للتغيير، لكن التغيير قد يكون بطيئا، المهم وعي الشعب مختلف الآن عما قبل.
س: طريقة التفكير السلبية و القدرية هذه و ترك الأمر لفرعون كما ذكرت، هل لها علاقة بالقناعات الدينية للمصريين؟
ج: لا، لو تقصد بالدين الإسلام الرد لا، لأن الإسلام في مصر منذ 1400 سنة تقريبا بينما مصر تاريخها أبعد من ذلك، تاريخها مرتبط بالنهر و الدولة المركزية و الفرعون الإلاه و أشياء أخرى ترسبت في ذهن المصريين عبر العصور، في ذهنهم أنه لا دولة بدون حاكم مطلق، و هذا فكر يجب أن يتغير، يجب أن يعرف المصريون أن الحاكم ليس فرعونا، و ليس إلاها وليس مطلقا، لكنه موظف عندهم برتبة رئيس.
س: سؤال يمزج السياسة بالأدب، لماذا نجد أغلب المبدعين أفكارهم يسارية، هل لهذا علاقة بتشجيع الحكومة و وزارة الثقافة لمفكرين معينين لهم أفكار معينة.
ج: أرى أن هذه ظاهرة عالمية، الكتاب في كل العالم يساريين، الكتابة و الأدب عموما يوجدان لأنك معترض و غير راضٍ و تبغي التغيير، هذه صفات كل الكتاب، و رغم أنهم لا يملكون إلا قلمهم و هذا قد يكون ضعيفا مقابل دبابات العسكر لكنهم دائما يحاولون تغيير العالم الذي هم غير راضين عنه، حتى في الاتحاد السوفيتي عندما كان اليسار يحكم كان هناك أدباء على يسار من يحكمون غير راضين عنهم و عن نظامهم البوليسي، في مصر هذا حتمي لأن الكتاب مؤمنون بشدة بالتغيير و لا يعجبهم النمطية التقليدية في الحكم و في التفكير، و يرون التناقضات حولهم، و التناقضات تؤلمهم و تتعبهم، و هذه التناقضات موجودة بشكل رهيب في مصر.
س: ألا ترى أن علاقة اليسار بالأدب تختلف من بلد لآخر، مثلا أنا معك في كل ما قلت بالنسبة للمبدعين من أمريكا اللاتينية، لكن في بلد مثل الولايات المتحدة هل العلاقة موجودة؟
ج: فعلا، لو تذكرنا فترة مكارثي لقد عزل و حاكم أغلب الكتاب بسبب ميولهم اليسارية، و أكيد لم يكونوا كلهم يساريين لكنهم مفكرون لم يعجبهم واقع بلدهم و رغبوا في تغييره، و حتى الآن يوجد العديد من الكتاب في أمريكا المعروفين بميولهم اليسارية مثل جويس كارول أوتس و غيرها.
س: الآن سؤال في الصميم، لو كنت سيادتك رئيسا لمصر ـ لا سمح الله ـ ما هي أول ثلاثة أعمال تقوم بها.
ج: أولا لازم أوفر أساسيات الحياة للشعب و بالذات للمعدمين، الطعام و الماء من أساسيات الحياة و من لا يملك طعامه لا يملك إرادته، و مش معقول البلد معتمدة على أنها تشحت أو تستلف طول الوقت لتوفير الطعام للشعب و نحن أيضا معرضين لأزمة حتى في المياه.
ثانيا لا يصح أن يكون عندي هذه الطاقة الهائلة من الشباب و أتركها مهدرة كما هو الحال الآن، لازم أفكر كيف أستفيدمن هذه الطاقة، فهي ليست عبئا، في الصين مثلا بيعتبروا تعدادهم الكبير ميزة و بيستفيدوا منه فلازم في مصر نوجد طريقة لتحويل هذه الطاقة من عبء إلى طاقة استثمارية،
ثالثا يجب أن نبحث عن الأفكار الخلاقة البناءة ما يسمى “خارج الصندوق” أو أفكار حديثة كي ننقذ مصر من ورطتها، إحنا في ورطة كبيرة و أغلب الحلول التقليدية لن تساعدنا، نريد حلولا مبتكرة و جديدة نقدر نطبقها،
فلو أنا حاكم مصر لازم نفكر في الأهداف البعيدة، نوفر للمصريين الغذاء كي نحرر إرادتهم، و أستفيد من طاقة ااشباب كي يعيشوا حياة أفضل و يفيدوا البلد و أطبق حلول غير تقليدية لحل أزمات البلد و تحرير العقل كي ينتج و يبدع و يعيش حياة كريمة.
س: لو تكلمنا عن فكر الإخوان، أنا رأيي أن هذا الفكر لم يناقش مناقشة علنية موضوعية عقلانية لدحره و بيان عيوبه، هذا مجرد مثال لأن هناك العديد من القضايا في مجتمعنا لم تناقش كما يجب، أنا لا أتحدث عن الأربعة أو خمسة سنوات الأخيرة أنا أتكلم عن فكرهم منذ نشأتهم، هل تتفق معي؟ و هل هناك فرصة أن يحدث هذا التحليل و البحث و النقاش؟
ج: نحن كشعب تحولنا من التعاطف مع الإخوان عندما كانوا مظلومين و مطاردين و بيخرجوا من السجون كي يعودوا لها، و كان تعاطفنا معهم إنسانيا إلى رفض كامل لهم عندما وصلوا للحكم و اكتشف الناس أنهم لا يعرفون كيف يحكمون، في نفس الوقت عندهم الرغبة في الاستحواذ و الانفراد، لم يكن عندهم أفكار جديدة، حتى مشروع النهضة الذي تحدثوا عنه أيام الانتخابات قالوا لنا عنه أنه كلام جرائد، ليس عندهم خطة و لا أفكار، عندهم رسائل حسن البنا و هي ليست خطة إنما كتابات تحض على الفضيلة و الورع و لا أحد يعارض ذلك.
س: لكن هناك توجيهات عامة في الرسائل تشكل فكر الإخوان، مثلا موضوع تعليم المراة و قضية الانتماء القومي.
ج: حتى الرسائل بها العديد من الأفكار القديمة، ثم أنهم ظهروا في وقت كان فيه تكوين جماعات ذات أيديولوجيات خاصة أمر منتشر كما لو كانت “موضة”، كان هناك الجماعة الفاشية و النازية و مصر الفتاة، لكن هذه الجماعات انتهت و بقى الإخوان بنفس الفكر القديم و هم فصيل مفروض أنه منتهي.
إنما موضوع مناقشة أفكارهم حصل و في المناقشات التلفزيونية في الغالب بيكون هناك ممثل لهم يعبر عن أفكارهم و أراءهم.
س: أنا لا أتحدث عن السنوات الأخيرة عن فترة ما بعد ثورة يناير، أنا أتكلم عن أفكارهم عموما.
ج: لا بصورة عامة و تاريخيا لا أذكر أن هذه الأفكار نوقشت كما يجب، كل ما هنالك كتب دعائية ضدهم، قد تكون أفكار مثل أبو الأعلى المودودي و مالك بن نبي نوقشت لكن ليس أفكار الإخوان بالذات و بصورة عامة تاريخية.