بقلم: المطران ميلاد الجاويش
ليس الزمن توالي السنين فحسب، بل حقل يعملُ فيه مَن هو سيّدُ الزمن. حيث الزمن، هناك الله. صحيح أنّ الله فوق الزمن وقبله، لكنّه أوجدَ الزمن كي يُرى فيه، كي يتلمّسَ الإنسانُ وجودَه عبر الأيّام.
خلق الله النيّرات العظيمة والكواكب التي يتعذّر إحصاؤها، لكنّه استلذّ الأرض موطئًا لقدَمَيه لأنّ زمنًا فيها. فيها إنسانٌ يذكره صباحًا وعشيّةً وليلاً. قد يكون الوقت نِيرًا على الإنسان، علامةً على محدوديّته، فيه يولد ويحيا ويموت، سبعين سنة وعلى الأكثر ثمانين، ورغدُ العمر إنّما هو تعبٌ ووجع (مز 90: 10)؛ غير أنّ الله في الزمن هو هو، أمس واليوم وإلى الأبد.
ليس الزمن هكذا لكثيرين. هو للبعض ميدان يتصارع فيه بنو آدم، يتنافسون، يتقاتلون، يُفني فيه القويّ الأضعفَ منه… زمنٌ رديء كهذا ليس زمنَ الله، بل استباق لجهنّم.
في اليونانيّة القديمة، لفظتان تدلاّن على الزمن: «خرونوس» و»كيروس». الأولى تعني الزمن «الدنيويّ»، ذاك الذي يَعدو بتوالي النهار والليل؛ أمّا الثانيّة فتعني الزمن «المقدّس»، ذاك الذي يعملُ الله فيه. رسالةُ الإنسان العظمى أن يحوّل «خرونوس» إلى» كيروس»، أن يقدِّس زمنَه ويُدخله في زمن الله.
كيف؟ بأن يتواصل مع الله الذي أوجده وأوجد الزمن. لا أقصدُ هنا العبادة، لأنّ هذه قد تقف عند حدود الظاهر ولا تمسّ القلب، لا قلب الله ولا قلب المتعبِّد. بالتواصل، أقصدُ تلك الصِلَة التي تُقيمها مع خالقك وتُريدها حيّةً، صلاةً قلبيّة.
أنجع طريقة لتقديس الزمن إضاعته، حرقُه. أجمل ما قرأتُه في الصلاة هو ما كتَبه الكَنديّ جاك غوتييه في كتابه Du temps pour prier. قال ما معناه: الصلاة هي وقت تُضيعه أمام الله، وإن أضعتَه فإنّك في الواقع تربحه. هو وقت تُحرقه بمجّانيّة أمام الربّ، تمامًا كما يُحَرق البخور. المجّانيّة، شرط أساسيّ في كلّ صلاة. الصلاة المجّانيّة هي كشمعة المذبح التي لا تُضيف بوهجها الخافت على نور الكنيسة المشعّة شيئًا. حسبها أن تحترق بصمت أمام الله. أنت لا تصلّي كي تصبح أكثر أخلاقيّةً ولا كي تصبح إنسانًا أفضل… هذا كلّه يُزاد لك. هو نتيجة. الصلاة، في جوهرها، هي للا شيء، لأنّ الحبّ يمارَس للا شيء. أنت تحبّ لأجل الحبّ ذاته، وتصلّي كي تتواصل مع مَن تحبّ، لا أكثر. هكذا يتقدّس زمنُك، بأن تَفقده في الصلاة. فَحيَّ على الصلاة!