بقلم الأديب: حسّان عبد الله
عُرِفَ الشاعر العبّاسي أبو العلاء المعرّي برهين المحبسين العمى والمنزل ، فقد أصيب بالعمى وهو في الرابعة من عمره وابتُلِيَ بحالةٍ من الشؤمِ والبؤس وأحسّ بقسوةِ القدر وظلم الحياة فتجهّمتْ نَفسُهُ وعراه شعورٌ بالضآلةِ وقلَّةِ القدر فنقمَ على نفسِه وعلى الحياة وعبّرَ عن هذا الانفعال الذي استبدّ به فقال:
لو كانَ كلُّ بني حَوَّاءَ يُشْبِهُني
لَبِئْسَ مَنْ وَلَدَتْ للنّاسِ حَوَّاءُ
فالشاعر يتخاذل خلال هذا البيت ويشعر بالهوان حتّى كاَنّه لعنةٌ من لعنات القدر وهو لا يكتفي بذلك ، بل يبعثه من نفسه إلى الحياة ويرى أنّها تَلِدُ الخِزْيَ والعار والعاهة ثمّ، ما يلبث أن يتمالك روعه في لحظةٍ نفسيَّةٍ أخرى فتنقشعُ أساريرُهُ وتشتدُّ عزيمتُه ويثقُ بنفسه وثوقًا شديدًا فلا يشعرُ بالتكافؤ مع سائر الناس وحسب بل يتفوّقُ عليهم ويُخيّلُ إليه أنّهُ أعظمُ الناس جميعًا فيقول :
ألَا في سبيلِ المَجْدِ ما أنا فاعِلُ
عَفافٌ وإِقْدامٌ وعَزْمٌ ونائِلُ
تُعَدُّ ذُنوبي عندَ قَوْمٍ كَثيرَةً
ولا ذَنْبَ لي إِلَّا العُلى والفَضائِلُ
وقَدْ سارَذِكْري في البِلادِ فمَنْ لهمْ
بإِخْفاءِ شَمْسٍ ضَوْؤُها مُتَكامِلُ
وإِنِّي وَإِنْ كُنتُ الأخيرَ زَما نُهُ
لآتٍ بما لم تَسْتَطِعْهُ الأوائلُ
فأين ما نشهده في هذه الأبيات من شموخٍ واستعلاء ممّا شهدناه في البيت السابق من بؤسٍ وانسحاق . لقد نزع من النقيض إلى النقيض بفضيلة الانفعال النفسي المرتبط بيقين اللحظة التي يعانيها الشاعر . لا شكَّ أنّ هذين القولين ينطويان على مستحيل لا يسيغُهُ المنطق إذْ يتعذّرُ أن يكونَ المرءُ في غاية الذل والدناءة وذروة الرفعة والتفوّق في الآن ذاته . إلّا أنّ ما يبدو مختلفًا متناقضًا هو متآلف متوحّد في إطار النفس التي تخضعُ لمنطقِ الشعور بالرّغمِ من الفوضى التي ينطوي عليها أكثر ممّا قد تخضعُ لمنطقِ العقلِ الرصين الجامد.