بقلم: تيماء الجيوش
إنتهىت الأمسية الموسيقية و الحضور وقوفاً يحيونه . نظر إليها و عيناه تلمعان شكراً لحضورها و هي تجلس في الصف الأول ، بادلته نظرة الشكر و ابتسمت طويلاً ، ابتعد عن آلة القانون ، حمل أوراق النوتة و نزل بها إلى الجمهور ليمنحها إياهم ، أراد أن يرد تحيتهم بأجمل منها و أن يهديهم علاماته الموسيقية التي رافقته وما أبدعه هذه الليلة. و كان نصيبها أيضاً ان تحظى ببعضٍ منها . هكذا هو لا يريد لها إحراجاً أو ضغطاً. يودّها أن تأتي إليه يوماً بكل ثقة و حرة من كل ثقل و هي سعيدة و ذات قناعةً تامة به ، بمن هو و ما هو عليه. منذ زمالتهما في أروقة الجامعة و هما يزدادا عمقاً بمعرفة بعضهما البعض ، مساحات لا محدودة من الاتفاق في الآراء و التقدير ، كان لأي نقاش أن ينتهي بذات الرأي لهما دون استثناء هنا آو هناك . هما يريان في المرأة شريكاً مجتمعياً أساسياً لا تستقيم الحضارة بدونه ولا تُقاس مدنية اية مجتمع إلا بدرجة علو مرتبة نسائه. هما يريان في الفقر عاراً على أي مجتمع لا يمحوه إلا القضاء عليه. و كلاهما يرى في الزواج مؤسسة جميلة ناجحة تستهدي بالثقة و الصدق. كم كان أصيلاً بآرائه ولازال و كم كانت هي وما زالت ممتنة له و لرقيه الفكري. عاد الى جوار آلة القانون ، حيى الجمهور مرةً أخرى و انصرف. و كذلك هي و صديقاتها بدأن بمغادرة المسرح. في الطريق الى المنزل كان الحديث من احدى صديقاتها عن جمال موسيقاه و فضاءات الروح التي تختزنها. كان عرفاناً بموهبته و إحيائه لالةٍ تقليدية ربما لا تُغري الكثيرين بمعرفة أصولها أو بالعزف عليها. قالت : «تلك الأوتار تلتحم مع أنامل من يهواها «ضجّت الصديقات جميعاً ضحكاً و مزاحاً عند كلمة الهوى، إحداهن انطلقت تردد و بنعومةٍ و بصوتٍ خفيض « الهوى هوايا» ما زاد المرح في خطواتهن. فإعجابه و رغبته بأن يكون لهما يوماً حياة مشتركة لم يعُد أمراً خافياً في محيطهما الاجتماعي. لكنها هي من تتريث و هي من تود أن تعطي الأمر حقه من التفكير و الصدق في تحديد مشاعرهما وإن كانت رغبتها حقيقية في ارتباطهما معاً. زِد على ذلك أن عائلتها تدفع بها الى الارتباط و ترى تقليدياً أن سعادتها في إرتباطٍ يوفر لها الاحترام أولاً و الحياة الكريمة وأن العمر قصير و هي في سنٍ لم يعد يحتمل تأجيلاً و هي بحق أهلاً لكل ما هو جميل في الحياة حيث لا ينقصها علماً أو أخلاقاً أو عملاً.
لم تقف عائلتها عند التمني فقط بل طلبوا منها و برجاء أن تقابل سعيد في يوم الغد القادم لخطبتها و الذي يمتُّ لها بصلةِ قرابةٍ بعيدة لكنه مجتهد دوماً بأن تصل تفاصيل عمله و نجاحاته الى الجميع مهما قرب أو بعد.
هما نقيضان في كل شيء لكنها قررت و احتراماً لرغبة أهلها أن تقبل زيارته . تختصر ابتسامةً مقتضبة في زاوية فمها عندما تقف عند فهم المفارقات أو الصدف و توقيتها في الحياة. اليوم أمسية موسيقية ل وليد الذي يرغبها و بشدة و بكل أناقة وصبر و غداً عليها استقبال سعيد الصاخب دوماً بأخبار عمله و حساباته البنكية أمامها هي الحريصة كل الحرص على حريتها و أن ارتباطها المقبل لن يكون سوى متمماً لهذه الحرية و ليس مُدمراً لها. . خرجت مما تفكر به عندما تنبهت إلى أنها وصلت منزلها . حيت الصديقات مودعة عند الباب و تمنت لهن ليلة سعيدة على أمل اللقاء القريب. في اليوم التالي حضر سعيد و قد حرصت أمها أن يكون الجميع في استقباله و البيت في أحسن حلته . تبادلوا عبارات الترحيب و الأخبار المختصرة عن أفراد العائلة إلا هو إلا سعيد فكل حدثٍ له فيه بطولةٍ فردية و كل أمرٍ له فيه معرفةً دقيقةً به و أي موضوعٍ يُطرح لا بد و بطريقة ما أن يصل بطريقةٍ ما الى قصصه و سرده و الى أخر صفقة أتمها و نجاحاته فيها. هكذا هو لم يتغير لديه من الليونة الشيء الكثير يرافقها تمرساً و خبرة لا يِستهان بها في تسويق نفسه حتى في ابسط تفاصيل الحياة و مهما كانت شخصية او عملية. ضحكت في سرها نمطيته لاتتغير، هي تفهم ذلك و لا يعنيها . أحياناً تشعر بالشفقة عليه و هو لا يرى في نفسه سوى بُعداً يتيماً ، ترقب بعينيها الواسعتين كيف انصرف أهلها الواحد تلو الآخر من الغرفة كي تتجاذب أطراف الحديث مع سعيد و يوجه طلبه لها أولاً. لم يوفر الوقت و انبرى يسألها الموافقة على خطبتها له. ابتسمت له و سألته لماذا أنا؟ فرد لأنك قريبتي و جميلة و ذات سمعة طيبة و أعرفك منذ نعومة أظافرك. عادت لسؤاله و ماذا تعرف عن المرأة ؟ من هي؟ ماذا عني ، عن أحلامي؟ همومي؟ مخاوفي؟ عملي؟ عاد برأسه إلى الخلف و عقد بين حاجبيه ، لما تسألين؟ ثم ما هذا السؤال عن أحلامك و عملك. أحلام المرأة مع زوجها و عملها لا حاجة لأن تُهين نفسها به.
لأنني حقاً أود أن أعرف كيف تراني و من أنا. ويبدو أنني قد حصلت على إجابتي بجملتين قصيرتين منك. أجابها و بمزاحٍ محاولاً أن يأخذ دفة الحديث منها : آهٍ من هذه الكتب و الروايات التي تقرأيها، لا أمانع أسئلتك إن كانت دلالاً . و أنهى جملته بضحكةٍ حادة. عاودت النظر في عينيه بل أرجوك لا تُكثر في الحديث لان ردودك زادت من الأمر سوءاً. لأول مرةٍ تراه مُحرجاً، لأول مرةٍ تراه فقير الكلمات و الحجة . هو أيضاً كان مدركاً هذا ، اتجه غاضباً نحو مكتبتها و الرفوف المنتظمة تحتضن كتبها قائلاً: هذه الكتب لن تطعمك خبزاً و لن تحميك من غدر الزمان. هذه الكتب ستكون سبب تعاستك ووحدتك. أنت لا تُخيفيني بثقافتك. عند الباب الرئيسي مغادراً و بصوتٍ عالٍ ، كتبك ستجعل منك عانساً ليس إلا. لم تكن ليلةً هانئة الكل كان يستفسر و يبحث عن إجابة ما لما حدث . كان عليها أن تشرح لهم وجهة نظرها وأن زواجها ب سعيد سيجعل منها جارية لا أكثر ولا اقل. وإنهما لن يلتقيا بأي رأي أو وجهة نظر فكلاهما مختلف كلياً عن الأمر. في الصباح التالي ، كان قرارها ألا يمضي وقتاً دون لقاء وليد. في الصباح التالي أدركت أن من يرى في المرأة شريكاً أساسياً هو من يستحق ان يرافقها في رحلة العمر على مطباتها و اختلاف مراحلها. هو من سيرى في المرأة ليس ربع أو نصف الحضارة بل الحضارة بأكملها. اتصلت به و كان أول ما أجابها به مرحباً بزهرة العمر. كل العمر. نورتني