بقلم: د. حسين عبد البصير
الملكة الذكية وصاحبة الشخصية القوية الملكة تى
وتعد الملكة تي هي الزوجة الرئيسة للفرعون الشمس الملك أمنحتب الثالث. وقد تزوج منها في العام الثاني من حكمه. وكانت تي سليلة واحدة من إحدى عائلات نبلاء البلاط الأثرياء وتحديدًا من مدينة أخميم الواقعة حاليًا في محافظة سوهاج في صعيد مصر الجواني. ولعبت تي دورًا كبيرًا في حياة وفترة حكم زوجها الملك الشمس وأنجبت له وريثه وولي عهده الفرعون الموِّحد والملك الفيلسوف أمنحتب الرابع/أخناتون (في ما بعد) وعددًا من الأبناء والبنات. وفي العقيدة الدينية والملكية لفترة حكم الفرعون الشمس، اعتبرت الملكة تي إلهة السماء الأم، بينما اعتبرت بنات الملك بنات إله الشمس مما يؤكد على رغبة الفرعون الشمس العارمة في اقتباسه لنفسه صورة إله الشمس في شخص الملك أمنحتب الثالث المُؤله في حياته الدنيا. ويعد أمنحتب الثالث من بين الملوك المصريين القلائل الذين قُدسوا في حياتهم مثل الملك سنوسرت الثالث من قبله والملك رمسيس الثاني من بعده.
وتشير الآثار الملكية وغير الملكية من عصر الفرعون الشمس الملك أمنحتب الثالث إلى أهمية زوجته الملكة تي طوال فترة حكم زوجها؛ فقد عُثر على عدد كبير من التماثيل في أحجام ومواد مختلفة تصور الملكة تي مع زوجها، بينما تظهرها النقوش تساعده في كثير من طقوس العبادة، وتشاركه في الاحتفالات خصوصًا الاحتفال المعروف بعيد «سد». ووصف أحد النصوص الملكة تي بأنها ترافق الملك أمنحتب الثالث مثل الإلهة ماعت حين ترافق إله الشمس رع.
ومن أبرز ملامح عصر الفرعون الشمس الملك أمنحتب الثالث الفنية ما يعرف بـ «الجعارين التذكارية» التي أنتجت في عصره بكثرة لتمجد الملك وتعظم من شأنه في مصر وخارجها ولعل الملك أهداها لكبار شخصيات الدولة من رجال بلاطه العديدين. ومن بينها أكثر من ستين جعرانًا تذكر الفرعون الشمس الملك أمنحتب الثالث وزوجته الملكة العظيمة تي وتعرف بـ «جعارين الزواج»، وتحتفل ست منها بزواجه من أميرة من بلاد ميتاني في بلاد الشام. بينما يذكر حوالي إثنى عشر منها شق بحيرة للراحة والاستجمام في بركة هابو (في طيبة الغربية) أقامها الملك حبًا في زوجته الغالية قوية الشخصية والحضور الطاغى الملكة الذكية تي، ومن بينها أيضًا ما يمجّد صولات وجولات الملك أمنحتب الثالث في صيد الثيران والأسود.
رسائل العمارنة عن مصر والشرق الأدنى القديم
تعد رسائل العمارنة واحدة من أهم الأرشيفات الدبلوماسية القديمة التي تعطينا فكرة شاملة ومتميزة عن أحوال مصر في عصر الدولة الحديثة وجيرانها من امبراطويات ووممالك وإمارات الشرق الأدنى القديم في عصر البرونز الحديث. وحفظ لنا الأرشيف الملكي الخاص بالملك أخناتون في عاصمته الجديدة «آخت آتون» –ويقع مكانها الحالي في منطقة تل العمارنة في شرق نهر النيل (في محافظة المنيا في مصر الوسطى حيث نقل الملك الموحد أخناتون مقر حكمه بعد أن ترك طيبة العاصمة المصرية العريقة في جنوب مصر) – عددًا من الرسائل المهمة، أو ما يُطلق عليه علماء المصريات والشرق الأدنى القديم اصطلاحًا «رسائل العمارنة» (المكتوبة بالخط المسماري لغة المراسلات الدولية في ذلك العصر). وكانت تلك الرسائل تخص المراسلات الدبلوماسية المتبادلة بين الفرعون الشمس الملك أمنحتب الثالث (ومن بعده ابنه الملك أمنحتب الرابع/أخناتون) وحكام الشرق الأدنى القديم المعاصرين لملك مصر. ومن خلال تلك الرسائل تظهر مكانة مصر المتميزة بين القوى العظمى فى العالم القديم. ويظهر أيضًا مدى حسد حكام بابل وميتاني وغيرها لثراء الفرعون الشمس الملك أمنحتب الثالث خصوصًا امتلاكه كميات كثيرة من الذهب الذي قال عنه أحد حكام الشرق الأدنى القديم «إن الذهب في أرض مصر المباركة كثير مثل التراب»، طالبًا إرسال كمية منه له. ومن المعروف أن ذلك الفرعون الشمس الملك أمنحتب الثالث تزوج عددًا غير قليل من الأميرات الأجنبيات. وقد استخدم الملك أمنحتب الثالث نفوذه الكبير كي يحضر كثيرًا من هؤلاء الأميرات من تلك البلدان لمصر كي يتزوجهن؛ إذ كان هذا الملك مولعًا بالنساء لأقصى درجة؛ فنراه يتفاوض على زواج أميرات من أرزاوا وسوريا وميتانى وخيتى (بلاد الأناضول حاليًا) وغيرها من بلاد الشرق الأدنى القديم التي كانت تخضع لسلطانه الممتد أو من البلدان والدويلات التي كانت تربطه بها علاقات صداقة ودبلوماسية وتبادل تجاري وثقافي. ومن الجدير بالذكر أن زوجته الرئيسة الملكة الحكيمة تي كانت توافق ولا تعارض زواج الملك من هؤلاء الأميرات، بل كانت تبارك تلك الزيجات الدبلوماسية كي ترضي زوجها الذي لم يكن يسكن قلبه غير حبه للملكة تى، وكي توطد دعائم وعلاقات حكم زوجها الملك المحبوب في الشرق الأدنى القديم. ومن اللافت للنظر ذكر اسم الملكة تي في تلك الرسائل وتودد حكام الشرق الأدنى القديم لها وطلب توسطها لدى زوجها الفرعون الشمس الملك أمنحتب الثالث ومن بعده ولده الفرعون الموحد الملك أمنحتب الرابع/أخناتون.
الملك أمنحتب الثالث شمس مصر الخالدة
ووُصف الملك أمنحتب الثالث بـ «قرص الشمس المشع» وعُرف بلاطه بالعظمة وصار مضربًا للأمثال بالثراء المبهر. واختار رجال بلاطه وكبار رجال دولته من عائلات النبلاء القديمة تماشيًا من سياسته القائمة على اختيار أصحاب الدم الأزرق فقط لإدارة دولته الشاسعة. وبعد الوفاة المبكرة لولى عهده الأمير تحتمس، أصبح الأمير أمنحتب (أمنحتب الرابع/أخناتون بعد ذلك) وليًا للعهد ثم صار ملكًا على مصر بعد وفاة أبيه الفرعون الشمس.
وبالنسبة للملك أمنحتب الثالث وولعه غير المسبوق بالبناء والفن والعمارة والتشييد، فقد اهتم بترميم ودراسة آثار أجداده من الملوك الأقدمين ملوك مصر السابقين. وقلّد التمثال الأشهر لجده الأعلى الملك خفرع –من حكام عصر بناة الأهرام من ملوك الأسرة الرابعة– في تمثال فريد له كان موجودًا في مقبرة أمنحتب الثالث بطيبة الغربية (ويوجد الآن في متحف جامعة لندن في المملكة المتحدة) ويظهر الملك أمنحتب الثالث راكعًا وكان يحمي رأسه الإله حورس مثلما هو الحال في تمثال الملك خفرع المعروف عالميًا. وفي النصف الثاني من حكم الملك أمنحتب الثالث، أشرف الملك شخصيًا –أو من خلال مستشاريه المقربين– على تعديل المبانى الدينية في طيبة وأضاف إليها معبده الجنائزي الضخم الخاص بتخليد ذكراه في منطقة كوم الحيتان في غرب طيبة.
معبد تخليد ذكرى الفرعون وتمثالا «ممنون»
وأقام الملك أمنحتب الثالث عددًا كبيرًا من المشروعات المعمارية العظيمة لم يبقِ منها سوى القليل مثل معبده الجنائزي الكبير الخاص بعقيدته الأخروية الذي تم تشييده في طيبة الغربية الذي لعله من أشهر ما بقي منه تمثالا ممنون الشهيران المصنوعان من حجر الكوارتزيت اللذان كانا موجودين على مدخل المعبد وعدد من الآثار المكتشفة حديثًا بواسطة بعثة المعهد الألمانى للآثار بالقاهرة. وكان هذا المعبد محطمًا تمامًا. وقد حاول الملك أن يقلد الملوك السابقين عليه فى هذا المعبد الذي كان ضخمًا والذي أقامه الملك للاحتفال بالعيد الثلاثينى لجلوس الملك على عرش مصر. وكان هذا المعبد يحتوي على عدد كبير من التماثيل يقدر عددها بالمئات إن لم يكن بالآلاف المنحوتة من عدد متنوع من الأحجار الصلدة والسهلة.
ودون شك، فإن أكبر هذه التماثيل على الإطلاق هما تمثالا ممنون الشهيران اللذان كان يحيطان بمدخل معبد تخليد الذكرى الخاصة بالملك أمنحتب الثالث الفرعون الشمس. وكان يلي هذين التمثالين ثلاثة صروح ثم كانت تتلوها تماثيل بنات آوى وتماسيح رابضة على شكل تماثيل «أبو الهول» ثم كان يتبع ذلك بهو ذو أعمدة والمعبد الداخلي. وعلى عكس الكثير من المعابد في عصر الدولة الحديثة من ذلك النوع، فإن هذا المعبد كان غير مخصص لرب الدولة الحديثة المعبود الأشهر آمون كالعادة، وإنما كان مخصصًا للملك أمنحتب الثالث الذي عُبد فى حياته مثله مثل أي من الآلهة المصرية القديمة، وكان كذلك مخصصًا لعدد من الهيئات المتنوعة لرب الشمس. وكان هذا المعبد الضخم مكونًا من أفنية مفتوحة لعنان السماء والتي قام فنانو البلاط المحترفين بتزيينها بمناطر عديدة تصور جلالة الملك أمنحتب الثالث يحتفل بعيد جلوسه على عرش أرض مصر الطيبة. ولعل العنصر المعماري الذي كان مسيطرًا في هذا المعبد هو وجود عدد كبير من التماثيل التي وُضعت وفقًا لنظام زخرفي محدد ربما كان سماويًا أو وفقًا لمخطط معماري آخر. وكان بهو هذا المعبد أغلب الظن مشيدًا بحيث حين يفيض نهر نيل مصر العظيم يظهر المعبد بعد انحسار المياه موحيًا ومصورًا ومبرزًا قصة خلق الكون ونشأة العالم عند بزغت أول بقعة من الأرض المصرية المقدسة من داخل الفوضى والعدم الموجود بالمياه العتيقة في المحيط الأزلي المسمى بـ «نون» وفقًا للمعتقدات المصرية القديمة خصوصًا مذهب مدينة الشمس «هليوبوليس» (منطقتا عين شمس والمطرية الحاليتين في الجزء الشرقي من محافظة القاهرة).
معبد الأقصر أعظم آثار الفرعون الشمس
ويعتبر معبد الأقصر واحدًا من أهم آثار مصر الفرعونية والفرعون الشمس الملك أمنحتب الثالث المعمارية الكبرى الباقية إلى الآن، وكذلك فهو واحد من أكبر الأبنية المعمارية على الساحل الشرقى للنهر الخالد: نهر النيل، دون شك، علاوة على معابد الكرنك. وعُرف فى اللغة المصرية القديمة بـ «إيب رسيت» بمعنى «الحرم الجنوبى». وبُنى المعبد من الحجر الرملي النوبي المجلوب من محاجر جبل السلسلة في أسوان. وفي هذا المعبد، نُحتت تماثيل الملك أمنحتب الثالث الممتازة من الجرانيت الأسود والأحمر لكن بالأسلوب التقليدى الرسمى دون أن تظهر مكنونها الداخلى الذي كان يريد الملك إرساله إلى مشاهدى تلك التماثيل. وفي هذا المعبد، تم تصوير وتسجيل ما يعرف بقصة الولادة الإلهية والتى تأسس لشرعية حكم وملك الملك أمنحتب الثالث من خلال نسب نفسه إلى المعبود الأكبر آمون كى يصبح حكمه شرعيًا للبلاد نظرًا لميلاده من زوجة ثانوية لوالده الملك تحتمس الرابع. وزاد الملوك اللاحقون على هذا المعبد خصوصًا الفرعون الذهبي الملك توت عنخ آمون والملك رمسيس الثاني الذي تزين تماثيله الضخمة المعبد وكذلك إحدى مسلاته الموجودة أمام الصرح الخارجي للمعبد والتي توجد أختها في ميدان الكونكورد في عاصمة النور مدينة باريس الفرنسية.
وكان لمعبد الأقصر أهمية كبيرة في ما يعرف بـ «عيد الأوبت». وتم تكريس معبد الأقصر لثالوث مدينة طيبة (الأقصر الحالية) الأشهر المكون من المعبود آمون وزوجته المعبودة موت وابنهما المعبود خونسو، وفقًا لبعض الآراء، أو أن معبد الأقصر كان مخصصًا لآمون الأقصر في مقابل آمون الكرنك الموجود في معابد الكرنك إلى الشمال من معبد الأقصر من أجل عبادة «كا» الخاصة بالملك الحاكم. وكان عيد الأوبت يحدث بشكل سنوي وكان يتم فيه جلب تمثال المعبود آمون الكرنك والبقاء فترة من الوقت مع رفيقته المعبودة موت في معبد الأقصر في احتفال من أجل استمرار الخصوبة للأرض المصرية. وتصور المناظر الخاصة بهذا العيد على جدران المعبد من عهد الفرعون الذهبى توت عنخ آمون. وكان يربط بين معابد الكرنك ومعبد الأقصر ما يعرف بطريق الكباش وبُنى على مساره عدد من المقاصير الخاصة بالقوارب المقدسة التي تخص تلك المعبودات.
وبُنيت بعض المقاصير الخلفية في عهد الفاتح الشهير الإسكندر الأكبر في معبد الأقصر. وفي العصر الرومانى، تم استخدام المعبد وما يحيط به كقلعة ومقر للحكومة الرومانية في تلك الفترة. وفي العصر الإسلامي بنى مسجد «أبو الحجاج» على جزء من معبد الأقصر. ويمثل هذا المعبد استمرارًا للتراث المصري العريق من مصر الفرعونية إلى مصر الحديثة من زيارة المعبود آمون إلى زيارة ومولد سيدي «أبوالحجاج» الحالى.
وكذلك أمّر أيضًا الملك أمنحتب الثالث بتشييد أعمال ضخمة في الأقصر ومدينة هابو وأماكن عديدة كان من بينها نحت أكثر من خمسمائة تمثال لإلهة طيبة المعروفة الربة سخمت في معبد الإلهة موت بالبحيرة المقدسة «أشرو» بمنطقة معابد الكرنك. وأقام الفرعون الشمس الملك أمنحتب الثالث معبد الإلهة موت فيى منطقة معابد الكرنك، والصرح الثالث بمعابد الكرنك، ومقام مونتو ومعبد ماعت في معابد الكرنك. وقام أيضًا بإضافات مهمة لمعبد الإله جحوتي في هرموبوليس (الأشمونين في المنيا في مصر الوسطى).