بقلم: د. حسين عبد البصير
رسائل العمارنة عن مصر وجيرانها في الشرق الأدنى القديم
وكان من بين الاكتشافات الأثرية المهمة فى مدينة تل العمارنة ما يعرف بـ «رسائل العمارنة» التى تعد واحدة من أهم الأرشيفات القديمة التى تعطينا فكرة شاملة ومتميزة عن أحوال مصر فى عصر الدولة الحديثة وجيرانها من إمبراطويات ووممالك وإمارات الشرق الأدنى القديم فى عصر البرونز الحديث. وتم اكتشاف تلك الرسائل المهمة فى عام 1887 فى مكتب التسجيلات فى المدينة. وحفظ لنا الأرشيف الملكى الخاص بالملك أخناتون فى تلك المدينة عددا من الرسائل الفريدة من «رسائل العمارنة» (المكتوبة بالخط المسمارى لغة المراسلات الدولية فى ذلك العصر). وكانت تلك الرسائل تخص المراسلات الدبلوماسية المتبادلة بين والده الفرعون الشمس الملك أمنحتب الثالث والملك أخناتون والملك توت عنخ آمون وحكام الشرق الأدنى القديم المعاصرين لملوك مصر مثل سوريا وفلسطين والعراق وبلاد الأناضول. ومن خلال تلك الرسائل تظهر مكانة مصر المتميزة بين القوى العظمى فى العالم القديم. ويظهر أيضا مدى حسد حكام بابل وميتانى وغيرها لثراء الفرعون الشمس الملك أمنحتب الثالث خصوصا امتلاكه كميات كثيرة من الذهب الذي قال عنه أحد حكام الشرق الأدنى القديم إن الذهب فى أرض مصر المباركة كثير مثل التراب، طالبا إرسال كمية منه له. ومن اللافت للنظر ذكر اسم الملكة تى، زوجة الملك أمنحتب الثالث، فى تلك الرسائل وتودد حكام الشرق الأدنى القديم لها وطلب توسطها لدى زوجها الفرعون الشمس الملك أمنحتب الثالث ومن بعده ولده الفرعون الملك أخناتون.
الفنون
وجسد الفن فى عصر العمارنة فكر الملك أخناتون الدينى وعبر عنه بامتياز؛ إذ كان الفن العنصر الأول الذي من خلاله أظهر الملك وفنانوه رؤيتهم الجديدة لتجسيد تلك المفاهيم الدينية والفنية الجديدة التى أراد الملك إرسالها إلى شعبه. ونجح الفنانون الملكيون فى تل العمارنة فى التعبير عن تلك الآراء الجديدة وأحدثوا نقلة نوعية فى الفن فى تلك الفترة الزمنية القصيرة. وازدهرت فنون الزجاج والمعادن والجلد بشكل كبير. وتميز فن النحت وتم التجديد فيه. وصورت الملابس بشكل لافت للغاية وعبرت تلك الملابس الملكية عن إيمانهم التام بالمعبود آتون والديانة الشمسية فى تلك الفترة. وتم تمثيل العائلة المالكة بشكل غير مسبوق كما ذكرنا من قبل. وجسد الفنانون الملك أخناتون وأفراد عائلته الملكية وكبار رجال دولته بمعالم فنية مبالغ فيها حيث صوروا الوجه مستطيلا والشفاه غليظة والعيون كبيرة والبطن مترهلا والأفخاذ ضخمة بملامح تخلط بين الصفات الذكورية والأنثوية وفقا لمعتقدات الملك الدينية الجديدة، وليس وفقا لما أطلق عليه البعض الواقعية فى الفن. وفى هذه المناظر الفنية الجديدة، كان الملك وأفراد نظامه يعبرون عن رؤية الملك الدينية الجديدة التى اعتبر معبوده آتون فى أناشيده الموجهة إليه أبا وأما لكل البشر ولكل الكائنات. كان الفن الوسيلة المهمة والأولى التى استخدمها أخناتون فى نشر دعوته الدينية الجديدة. وقد نجح الفن فى تحقيق ذلك بتفوق كما أسلفنا القول.
التمثال النصفي للملكة نفرتيتي
ويعتبر تمثال الملكة نفرتيتى النصفى المصنوع من الحجر الجيرى الملون بالحجم الطبيعى من أروع الأعمال الفنية فى مصر القديمة، بل يعد هذا العمل الفنى ليس له مثيل فى تاريخ الفن على الإطلاق. ويبلغ التمثال حوالي 47 سم ارتفاعا. وترتدى الملكة تاجها الأزرق المميز المقطوع من القمة الذي تعلوه حية الكوبرا التى كانت رمزا من الرموز الحامية للملكية المقدسة فى مصر القديمة. ووجد هذا التمثال مع عدد من القطع الفنية الأخرى فى أتيليه الفنان المعروف تحتمس فى تل العمارنة بواسطة البعثة الألمانية فى عام 1912. وحين جاء تمثال نفرتيتى إلى برلين أحدث حمى كبيرة اجتاحت المدينة منذ عام 1913 ولم تهدأ إلى وقتنا الحالى. ولقى تمثال نفرتيتى فى القرن العشرين اهتماما كبيرا من قبل زوار متحف برلين. وتم الاهتمام بعصر العمارنة فى الأدب الألمانى. وزاره وأعجب به الشاعر الألمانى الشهير راينر ماريا ريلكه. وفى يوم 16 فبراير عام 1914، وبعد أن زارت معرض برلين، كتبت لو أندريه سالومه إلى الشاعر ريلكه تقول له فيه إن كثيرا من تماثيل الملك أخناتون تشبه الشاعر ريلكه. ولم يكن ريلكه فقط الذي كان يشبه الملك أخناتون، بل شبه به كثيرون. ومازالت فترة الملك أخناتون ودعوته تجذبان الكثيرين من جميع أنحاء العالم الذين يزورون مدينته ويتأملون تماثيله فى المتحف المصرى فى القاهرة أو فى برلين أو فى متحف فى العالم حيث توجد أية قطعة فنية تعود إلى عصر العمارنة الفريد.
غروب شمس العمارنة
وعلى عكس ما يشاع لم يقم أخناتون بتأسيس دولة دينية على الإطلاق. ومن المعلوم لعلماء المصريات أن الدولة الدينية الوحيدة التى قامت فى مصر القديمة كانت فى عصر الأسرة الحادية والعشرون، عندما استغل كهنة الإله آمون فى مدينة طيبة ضعف السلطة المركزية بعد نهاية الدولة الحديثة، وقفزوا على السلطة، وأسسوا تلك الأسرة التى حكمها كهنة آمون من الجنوب فى حكم ثيوقراطى لم يكن مقبولا من الجميع وسرعان ما انتهى بتأسيس الملك شاشانق الأول للأسرة الثانية والعشرين محققا عظمة الأجداد من ملوك الدولة الحديثة.
ولم تستمر دولة أخناتون طويلا. بسبب كثير من الأخطاء الكارثية الكبرى التى حاول الملك أخناتون القيام بها مثل محاولته الدوؤب تغيير الهوية الحضارية للدولة المصرية المتسامحة والتى تقبل التعدد بامتياز، وكذلك محاولته إقصاء كل ما ومن هو ضده، وأيضا زلزلة ثوابت الدولة المصرية العريقة، وإهمال سياسة مصر الخارجية وممالكها المهمة فى بلاد الشرق الأدنى القديم، والاكتفاء بالدعوة الدينية لمعبوده الجديد والتجديدات الفنية واللغوية والأدبية التى لم تمس عمق المجتمع ولم يتقبلها كلية، فضلاً عن التغيير الفوقى الذى أراد فرضه على الجميع فى وقت زمنى قصير، علاوة على عدم الاهتمام بالتراث المصرى الحضارى العريق الممتد فى الشخصية المصرية لآلاف السنين قبل بزوغ دعوته الدينية القائمة على الأحادية ونفى المعبودات الأخرى وكهنتها المتنفذين، وعدم الالتفات إلى طبيعة الثقافة المصرية وكذلك الشخصية المصرية وفهم مكوناتها ومكنوناتها، فكانت نهايته المأوسوية دون رجعة. ونظرًا لأنه كان أيضا هو الوسيط الوحيد بين معبوده آتون والشعب، فانتهت الدولة بانتهائه، وغابت الدعوة بغيابه. وانقلب المنافقون الذين ذهبوا معه إلى مدينته الجديدة بعد رحيله ولعنوه ولعنوا دعوته وهجروا مدينته وأطلقوا عليه «الملك المهرطق» و»المارق من تل العمارنة». ولم يبق من عصر العمارنة إلا أصداء العمارنة التي ما نزال نراها ماثلة أمامنا كذكرى على حكم لم يعمر سياسيًا طويلاً غير أنه ترك آثارًا تشهد على أهمية الفترة دينيًا وفنيًا ولغويًا وأدبيًا. ويكفي أن نلقي نظرة على تمثال الجميلة نفرتيتى كى ندرك روعة الفن وصدق الإيمان بالدعوة من قبل قلة من بعض مؤيدى الملك أخناتون وتوظيف الفن فى خدمة الديانة الآتونية والملك أخناتون وعائلته الملكية ودعوته الدينية وفلسفته فى الحكم ونظرته للدين والحياة. إنه عصر العمارنة الفريد بكل ما له وعليه.
هدية مصر للعالم
تدخل مصر القرن الحادي والعشرين متحفيًا بثقلها الحضاري والثقافي اللذين ليس لهما مثيل في العالم كله بافتتاح المتحفين التوأمين: المتحف القومي للحضارة المصرية بالفسطاط، والمتحف المصري الكبير بصحراء الأهرام كأعظم مشروعات القرن الثقافية، وتطوير وتحديث المتحف الأم المتحف المصري العريق بميدان التحرير.
ويعد المتحف القومي للحضارة المصرية أحد أهم المشروعات الرئيسية التي تتبناها وزارة الآثار المصرية ومنظمة اليونسكو. ويقع المتحف على بحيرة عين الصيرة التي سوف تشكل جزءًا من بانوراما المتحف. وتبلغ المساحة الإجمالية للمشروع 28 فدانًا إلى الآن، ومن المخطط زيادة مساحته إلى 70 فدانًا. ويتكون المتحف من مبنى الاستقبال ومبنى صالات العرض المتنوعة.
وسوف يعرض المتحف أربع مجموعات: أولاً: قلب المتحف، ويشمل العرض الرئيسي للمتحف الذي يبرز أهم إنجازات الحضارة المصرية في تسلسلها الزمنى. ويستطيع الزائر من خلاله أن يكون فكرة متكاملة عن الحضارة المصرية وأهم ملامحها الأساسية من عصور ما قبل التاريخ مرورًا بالعصر الفرعوني والعصرين اليوناني-الروماني والعصر القبطي والعصر الإسلامي والعصر الحديث إلى العصر المعاصر.
ثانيًا: العرض الموضوعي، ويشمل ستة موضوعات رئيسية: فجر الحضارة، والنيل، والكتابة، والثقافة المادية، والدولة والمجتمع، والفكر والمعتقدات الدينية.
ثالثًا: عرض المومياوات الملكية، ويمثل محور الجذب الأساسي في المتحف؛ حيث يستطيع الزائر أن يرى ملوك وملكات مصر الذين طالما حلم برؤيتهم وجهًا لوجه. وتتلخص فكرة العرض في تقديمهم بما يليق بمكانتهم الكبيرة بعيدًا عن عرضهم كمومياوات فقط.
رابعًا: عرض قمة البانوراما فوق المتحف، وسوف يشمل عرض تاريخ موقع القاهرة منذ أقدم العصور بأحدث وسائل العرض المتحفي الحديثة.
وخلاصة القول إن رسالة مصر للعالم من خلال هذا المتحف العالمي الفريد أن نهر العطاء الحضاري المصري للعالم لم ولن ينقطع يومًا، وأن حضارة مصر العريقة قامت ولاتزال على الإبداع المتواصل والإيمان العميق والإخاء والتكافل والتسامح وحب الإنسان المصري العظيم مبدع تلك الحضارة العريقة لكل ما يقوم به من أعمال جليلة.
وسوف يكون المتحف المصري الكبير بصحراء الأهرام أكبر وأهم متحف للآثار المصرية في العالم؛ ونظرًا لأهمية وعظمة وروعة وسحر آثار مصر؛ فسوف يكون بالتبعية أكبر متحف للبشرية وقبلة الزوار من كل مكان في العالم.
ويقع المتحف على مساحة 117 فدانًا؛ واختير موقعه بعناية فائقة حتى يكون على مقربة من أهرام الجيزة وتمثال «أبو الهول» العظيم، التي تمثل علامات حضارية مضيئة على وجه الزمن منذ أقدم العصور إلى وقتنا الحالي.
وسوف يشكل المتحف مع أهرام الجيزة وحدة بانوراميه رائعة؛ إذ سوف يتم الربط بين المنطقة الأثرية العالمية بالمتحف العملاق حتى يتسنى للزائر رؤيتهما والإحساس بعظمة الحضارة والمتحف معًا.
ومن خلال هذا المتحف، سوف يطالع زائره مجموعات فريدة ومتنوعة من الآثار المصرية القديمة التي تمتد زمنيًا من عصور ما قبل التاريخ، مرورًا بالمرحلة الفرعونية، وصولاً إلى المرحلة اليونانية-الرومانية. ودون شك سوف تكون أروع مجموعات هذا المتحف العالمي هي مجموعة الفرعون الذهبي الملك الصغير «توت عنخ آمون»، فضلاً عن تمثال فرعون مصر الأشهر نجم الأرض الملك رمسيس الثاني -الذي كان مقامًا في ميدان رمسيس- الذي سوف يحتل مكانًا بارزًا في المتحف بما يليق بمكانة الملك رمسيس التاريخية المهمة. وسوف يربط المتحف بعدد من المتاحف العالمية.
وتطرح مصر عبر هذا المتحف من خلال الفن المصري القديم رؤيتها ورسالتها كمبدعة للحضارة ممثلة في الكتابة والثقافة والفلسفة والفنون والآداب وغيرها الكثير، مؤكدة للعالم أجمع أن مصر الحضارة التي كانت وأبدعت أصل كل شيء لن ترضى لنفسها مكانة أقل من تلك التي أحرزتها قديما كأعظم قوة حضارية وعسكرية ضاربة سادت العالم القديم كله بالعلم والعدل والحكمة فأصبحت بجدارة سيدة للعالم القديم وسوف يخصص المتحف المصري بميدان التحرير لتاريخ الفن المصري القديم، وسوف تعرض به مجموعة فريدة ومحدودة من الآثار المصرية القديمة بعد أن يتم تطويره وتحديثه وفقًا لأحدث وسائل العرض المتحفي العالمية بما يليق بتاريخه ومبناه الأثري العريق والمتميز.