بقلم: نعمة الله رياض
كانوا أربعة أصدقاء منذ أعوام دراستهم في المدرسة الثانوية ، جمعهم الآن عضوية نادي رياضي عريق في حي راقي من أحياء القاهرة ، عمرهم في حدود العقد الخامس ، ثلاثة منهم متزوجون والرابع أرمل ، أغنياء ميسوري الحال ، يجتمعون كل شهر للعشاء على مائدتهم المفضلة في حديقة النادي ، لتمتد سهرتهم بعد الثانية صباحاً بقليل.. كانت هذه اللقاءات الشهرية هي الأحب لهم ، تسليهم وتمتعهم ، يتكلمون في كافة الموضوعات ويتذكرون فيها أحداث صباهم وشبابهم بنوادرها وطرائفها .. كان نجم هذه الجلسات صديقنا الأرمل عزيز بك المنشاوي ، وكان يصر على مناداته دائماً بلقب البكوية حتي على مائدة العشاء ، كان عزيز بك من أكثر أعضاء المجموعة حيوية ونشاطاً ، مثقف وواسع الإطلاع ، ملم بكافة الأحداث والتطورات السياسية والاجتماعية داخل مصر وخارجها، لهذا فليس غريباً أن يتولي إدارة المناقشات ، وغالباً ما كان يقنع الآخرين بوجهه نظره وأفكاره بسهولة .. كان يحكي لنا حكايات وحكايات عن مغامراته والأحداث التي عاشها ، المضحكة منها أو التي لها عبرة ، ويعطي لها أبعاداً فلسفية مما يجعل لها قبولا وانبهاراً عند السامعين ..كان في كل اجتماع شهري يخرج من جعبته قصة مشوقه ، ويزعم أنها واقعية وحدثت بالفعل ، وكان يحكيها بتفاصيل دقيقة تجعلنا نصدق انها قصة حقيقية .. كل هذا ونحن نقزقز اللب ونتناول الفول السوداني والمكسرات ونشرب العصائر والمشروبات الغازية .. أثناء الجلسة الشهرية الأخيرة ، قال عزيز بك بصوت منخفض :- أتدرون ! لقد واجهت تجربة صعبة منذ عدة سنوات، كنت أفضل ألا أحكي عنها لأحد ، ولكن بمرور الوقت أصبحت من الماضي الذي نستمد منه العبر.. صرخ الجميع :- هيا .. هيا إحكي لنا! قال لنا :- بكل سرور ! تعلمون أني أحب التجول في شوارع القاهرة بعد الظهر ، أشاهد المباني والشوارع والسيارات والمشاه وأتفاعل مع ما أشاهده ، وذات يوم في شهر سبتمبر منذ عشر سنوات تقريباً شاهدت فتاة حسناء ترتدي ملابس انيقة جداً تغادر سيارة تاكسي أمام باب النادي الرياضي الذي أنا عضواً فيه ، فقررت تتبعها فانا لم أشاهدها من قبل في النادي وهي ليست بالتأكيد عضواً فيه، دخلت الفتاة مطعم النادي واختارت مائدة في ركن قصي في المطعم وجلست في مواجهه باقي الموائد ، أما انا فتوجهت إلي مائدة بالقرب منها تكاد تلاصق مائدتها ، وبدأت في تطبيق خطة التعارف التي أجيدها ، أخرجت علبة سجائري وأشعلت واحدة وطلبت من النادل فنجالاً كبيراً من القهوة السادة وبدأت في التأوه وأنا أطرق بكفي سطح المائدة بعصبية ، واسند خدي بالكف الآخر ، كان مظهري ينم عن حزن عميق ومتفجر مما جعل الفتاة تترك مائدتها وتقترب من مائدتي وتسألني:- لماذا كل هذا الحزن يا أستاذ؟ بدمعتين سقطتا من عيني، أشرت إليها بالجلوس على مائدتي وقلت لها إن هذا المطعم يذكرني بالأيام السعيدة التي قضيتها مع زوجتي قبل ان تفقد حياتها في حادث مروري ، ثم أضفت :- حقيقة أنا أشكرك على إهتمامك وأسمحي لي أن تلبي دعوتي للغذاء معاً ، لإني أشعر بالوحدة الشديدة.. ترددت قليلا ثم وافقت على دعوتي.. شكرتني بعد الغذاء وطلبت الإذن بالإنصراف إلي منزلها ، سألتها:- هل هناك ما يشغلها لبقية اليوم؟ أجابت بالنفي فأضفت قائلاً:- وهل هناك في المنزل شخص ما ينتظرك ؟ أجابت بالنفي ايضا، قلت لها وانا أشعر أنها وقعت في الشبكة :- إذاً إسمحي لي أن ادعوكي لتناول العشاء في مطعم شهير بوجباته المميزة ، ودعينا نتسكع في محال ومعارض وسط المدينة إلي حين يقترب وقت العشاء ، قالت لي :- ولكني أحتاج لتغيير ردائي في المنزل ليناسب الجلوس في ذلك المطعم الفاخر ، قلت لها :- لا يساورك أدني قلق ، فعندما نذهب لمعارض الملابس والأحذية وحقائب اليد ، يمكنك إختيار الطاقم الذي يروقك وإعتبري ذلك هدية مني.. مرت الأمسية بسرعة وتناولنا العشاء، وعند خروجنا من المطعم إستجمعت شجاعتي لأطلب منها أن نكمل السهرة في شقتي ، وافقت بعد قليل من التمنع.. صعدنا على درجات السلم للدور الرابع حيث أسكن وارتمينا على أريكة بجوار الباب من شدة التعب ، نظرت إلي وجهها الطفولي البرئ ولعينيها الصافيتين صفاء يخلب الألباب وقوامها الرشيق الممتلئ قليلاً ، وإلي بشرتها الناعمة البيضاء ، قلت لنفسي :- صحيح إنها لا تتجاوز العشرين من عمرها ، ولكني أيضاً لست كبيراً في السن ، فعمري لا يتجاوز الأربعين سنة وعلى درجه مقبولة من الوسامة ، إحتويتها بين ذراعي وأغرقت خديها وجفون عينيها بقبلاتي .. قالت فجأه :- هذا يكفي !.. هذا يكفي ! ، وابعدتني بيدها ، لكني قبلتها قبلة طويلة في فمها فلم تقاوم ، توجهنا لغرفة النوم حيث أكملنا السهرة حتي شروق الشمس .. إستمرت علاقتنا حوالي ستة أسابيع كانت تقيم فيها في شقتي ، لم تكن تنظف الشقة أو تطهو الطعام بل كانت تطلب إرساله جاهزاً للشقة ، كان كل إهتمامها هو الخروج معي للنزهه والتسوق وشراء الملابس والعطور والمشغولات الفضية والذهبية ، كانت تفتعل الخلافات والمشاحنات لغرض واحد هو أن أصالحها بهدية قيمة ، مما إضطرني أن أكسر وديعة بنكية لأسدد طلباتها المتزايدة ..أخيراً لم أتحمل هذا الوضع الذي بعث في الملل ، فإدعيت أني مطلوب للعمل في فرع الشركة بمحافظة مجاورة ، فجمعت ملابسها ومقتنياتها وعادت لمنزلها على وعد مني أن أتصل بها عند عودتي .. مر شهران تقريباً على إنفصالنا ، والعجيب أني اشتقت أن أعرف أخبارها ،علمت انها غادرت منزلها ، نزلت أهيم في الطرقات والأماكن التي كنا نتمشى فيها ، ولم اعثر عليها ، إلي أن جاء يوم كنت أتمشي فيه بالقرب من المقابر التي دفنت فيها زوجتي ، فعزمت أن ازور قبرها ، جلست على سطح القبر الرخامي وقرأت اللوحة الرخامية الموضح بها اسم الفقيد وتاريخ ميلاده ووفاته ،أخذت أجول بنظري على السائرين بين صفوف المقابر التي يرقد فيها أحبائهم وأقاربهم وأصدقائهم ، لم يعد في الإمكان الإتصال بهم، إنها أماكن ضيقة تعج بسكانها الموتي يغلفهم صمت القبور ، ليست مثل الأماكن الفسيحة التي يعيش فيها الأحياء ويتسببون في كثير من الضوضاء والإزعاج ، فالموتي جيران متراصة لا يتزاورون ولا يشاهدون التلفزيون ولا يركبون المواصلات .. أثناء عودتي إلي المنزل رأيت رجلاً وإمرأة يقتربان مني في الاتجاه المضاد ، وفجأة تبينت ملامح وجه المرأة .. يا إلهي إنها هي ، إنها فتاتي التي أبحث عنها ، كانت جميلة كما عهدتها دائما ، تلبس رداءاً انيقاً لونه أسود وكانت تبكي بحرقة وهي متعلقة بذراع الرجل الذي يسير معها ، كان الرجل وسيماً لا يزيد عمره عن الخامسة والثلاثون عاما ملامحه وملابسه تنم عن شخص شديد الثراء ، بالطبع لا بد أن يكون كذلك !! أدركت مدي الخدعه التي تعرضت لها .. لمحتني الفتاة من خلال دموعها المصطنعة فشحب وجهها ، ولكنها نظرت إلي شذراً محذرة أن أقول شيئاً ، وهذا تماماً ما كنت أنويه !! فلماذا أحرمها من أن تصطاد من هذا الكنز الثمين الذي وقع في حبائلها ؟!!