بقلم / مسعود معلوف
سفير متقاعد
منذ أن قامت إسرائيل بحربها على قطاع غزة بعد العملية المفاجئة التي نفذتها حركة حماس في السابع من أوكتوبر من العام الماضي حيث قتلت حوالى 1250 إسرائيليا من بينهم أكثر من ثلاثمائة جندي واحتجزت حوالى مائتين وخمسين رهينة من الجنود والمدنيين، تشير الإحصاءات الى أن أكثر من أربعين ألف فلسطيني قد قتلوا كما أصيب عشرات الآلاف في القطاع حتى الآن، نصفهم على الأقل من النساء والأطفال ، بالإضافة الى تدمير المنازل والمدارس والمستشفيات والبنى التحتية بصورة ممنهجة وبعيدة كل البعد عن أي اعتبار إنساني.
عند بداية هذه الحرب على القطاع، أعلن نتنياهو أن إسرائيل لها هدفان وهما القضاء على حماس وتحرير الرهائن، وقد أيدت الولايات المتحدة إسرائيل بصورة غير محدودة، معلنة أن الدولة العبرية ليس لديها فقط الحق، بلعليها أيضا الواجب في الدفاع عن نفسها. وتوالت الوفود الرسمية الأميركية الى إسرائيل، وفي طليعتها الرئيس جو بايدن الذي تجاوز كل خلافاته السابقة مع نتنياهو ولم يتأخر في إرسال البوارج الحربية والأسلحة الهجومية والدفاعية على اختلاف أنواعها والأموال الطائلة، كما أوفد وزير خارجيته عدة مرات ووزير الدفاع تعبيرا عن التأييد الأميركي المطلق لإسرائيل.
حصلت عندئذ مفاوضات من أجل الوصول الى هدنة إنسانية مؤقتة بوساطة من الولايات المتحدة ومصر وقطر، وقد نجحت هذه المفاوضات في تحقيق هدنة لبضعة أيام في أواخر شهر نوفمبر تم بموجبها تحرير عدد من الرهائن الإسرائيليين المحتجزين لدى حماس وعدد من السجناء الفلسطينيين من السجون الإسرائيلية.
يقوم الوسطاء الثلاثة مجدداً، منذ ذلك الوقت، بالتفاوض مع الإسرائيليين وحركة حماس سعياً الى الوصول الى هدنة يليها وقف إطلاق نار دائم وإنهاء القتال، ولكن هذه المساعي لم تنجح حتى الآن، بالرغم من عشرات الإجتماعات التي عقدت في القاهرة والدوحة وباريس وروما وزيارات متكررة لوزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن الى المنطقة سعيا الى ردم الهوة وتقريب وجهات النظر بين الفريقين الإسرائيلي والفلسطيني.
أصبح من الواضح ان الذي يعرقل الوصول الى هدنة في قطاع غزة هو رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو الذي بعد كل جولة من المفاوضات، وبعد كل تصريح أميركي متفائل نسبيا بقرب الوصول الى اتفاق هدنة، يخرج الى العلن بتصريح ناري إما قائلا أن الهدنة لن تثنيه عن الإستمرار في محاربة حماس حتى القضاء التام على الحركة، أو عبر إضافة شروط تعجيزية يستحيل على حماس القبول بها ليتهم بعد ذلك الحركة بأنها هي التي ترفض الإتفاق.
في الثلاثين من شهر مايو/أيار الماضي، أعلن الرئيس الأميركي بايدن بنفسه في مؤتمر صحافي عن خطة مؤلفة من ثلاث مراحل للوصول الى وقف إطلاق النار موضحا أنه تبلغ هذه الخطة من إسرائيل وداعيا حماس الى القبول بها. بعد ذلك بفترة قصيرة، أنكر نتنياهو ان هذه الخطة تم إعدادها في إسرائيل ولم يتأخر في إضافة شروط جديدة عليها. في غضون ذلك، أعلنت حركة حماس في الثاني من يوليو/تموز موافقتها على الخطة التي أطلقها الرئيس بايدن، ولكن سارع نتنياهو الى إضافة شروط جديدة أهمها أن يبقى ممر فيلادلفي على الحدود مع مصر ومعبر نتساريم في وسط القطاع تحت سيطرة الجيش الإسرائيلي وهذا ما لا يمكن ان تقبل به مصر ولا الحركة.
يضاف الى كل ذلك أنه بعد جولة المفاوضات التي عقدت في الدوحة منذ حوالى ثلاثة أسابيع، أعلن الرئيس بايدن من البيت الأبيض أننا الأن “أقرب من أي وقت مضى للوصول الى اتفاقية وقف إطلاق النار”، ولكن بعد ساعتين من هذا التصريح الرسمي الأميركي وفي مقابلة كانت لي على إحدى الفضائيات العربية، سُئلت عن التصريح فكان ردي الفوري، إنطلاقا من ما كنت أتابعه من مواقف سلبية صادرة باستمرار عن نتنياهو، أننا الآن “أبعد من أي وقت مضى للوصول الى مثل هذه الإتفاقية”.
السبب الأول في مراوغة نتنياهو ورفضه بطرق ملتوية الموافقة على أية إتفاقية لوقف إطلاق النار هي خشيته من أن انتهاء الحرب سيؤدي الى انتهاء حياته السياسية وربما ذهابه الى السجن بسبب محاولاته قبل الحرب لتعديل قوانين تشكيل المحكمة العليا في إسرائيل من أجل التهرب من المحاكمة بتهم الفساد، ونذكر جيدا كيف كان مئات آلاف الإسرائيليين يقومون بتظاهرات يومية ضده بهذا الخصوص.
والسبب الثاني لرغبته في إطالة أمد الحرب هو سعيه المتكرر لاستدراج إدارة الرئيس بايدن الى الدخول في الحرب من أجل إضعاف الرئيس الأميركي وحزبه الديمقراطي كي يفوز في الإنتخابات التي ستجري بعد بضعة أسابيع صديقه وحليفه الرئيس السابق دونالد ترامب الذي سبق له أثناء رئاسته أن ألغى مسألة حل الدولتين من قاموس السياسة الخارجية الأميركية، واعترف بالقدس عاصمة لإسرائيل ونقل السفارة الأميركية إليها، وأوقف مساهمة الولايات المتحدة في منظمة الأونروا، وأقفل المكتب الدبلوماسي الفلسطيني في واشنطن، واعتبر هضبة الجولان السورية أرضا إسرائيلية، كما انه حقق ما يعرف ب “اتفاقات ابراهيم” التي بموجبها طبعت أربع دول عربية علاقاتها مع إسرائيل وأقامت علاقات دبلوماسية معها.
وبعد أن دمر نتنياهو قطاع غزة دون تحقيقأ من أهداف الحرب، توجه نحو الضفة الغربية لتشريد المزيد من الفلسطينيين بحجة “محاربة الإرهاب” الذي تشكله حماس في الضفة حسب تصريحاته، وها هو الآن يتوجه في حربه المدمرة نحو لبنان حيث يقوم الجيش الإسرائيلي بعمليات تدمير للمنازل وقتل وتهجير للسكان ليس فقط في الجنوب اللبناني ولكن أيضاً في مناطق أخرى من لبنان، متذرعا بأن إسرائيل تحارب حزب الله، وقد أضاف الآن نتنياهو هدفا ثالثا لحربه المستمرة في المنطقة وهو إعادة المستوطنين الإسرائيليين الى الشمال بعد أن نزحوا منه بسبب قصف حزب الله للمناطق الشمالية من إسرائيل انطلاقا من الجنوب اللبناني.
يدعي نتنياهو أن إسرائيل تتعرض لخطر وجودي إذ أنها تهاجَم من جميع النواحي، من غزة ولبنان والعراق واليمن، وذلك من أجل عدم خسارة العطف الأميركي بعد مواقفه الرافضة للضغوط الأميركية لوقف إطلاق النار وإهانته للرئيس بايدن مرات عديدة عبر هذه المواقف السلبية والعلنية.
يعرف نتنياهو جيدا أن أولى أولويات الولايات المتحدة في الشرق الأوسط هي إسرائيل، وهو يسمع ويرى المرشحَين الأميركيَين للرئاسة يتباريان في من يؤيد إسرائيل أكثر من الآخر مع تأكيدهما التام بأن الولايات المتحدة ستستمر في دعمها لإسرائيل ومساعدتها بشتى الطرق في حال تعرضها لأي خطر خارجي. يعرف أيضا نتنياهو أن الولايات المتحدة قد أدرجت حزب الله على لائحة الإرهاب منذ العام 1997، وأن أية معارك تحصل بين الحزب وإسرائيل فإن الولايات المتحدة لن تتأخر في دعم حليفتها ضد المنظمة التي تعتبرها إرهابية.
من هنا نرى كيف قام نتنياهو بعمليات كان يعتقد أن من شأنها أن تؤدي الى إدخال إيران في حرب ضد إسرائيل ما كان سيحتم التدخل الأميركي مباشرة، وقد رأينا ذلك بعد قصف القنصلية الإيرانية في دمشق حيث أرسلت الولايات المتحدة أكبر حاملة طائرات في العالم الى الشواطئ الإسرائيلية دعما لحليفتها. نذكر أيضا في هذا السياق اغتيال القيادي في حزب الله فؤاد شكر في بيروت وبعده مباشرة اغتيال إسماعيل هنية في طهران نفسها.
يعرف الجميع أن الولايات المتحدة وخاصة إدارة الرئيس بايدن الحالية ليس لها مصلحة للدخول في حرب في الشرق الأوسط، كذلك إيران لا تريد الدخول في حرب وقد أثبتت ذلك عبر مواقفها بعد كل عملية كان يقوم بها نتنياهو لاستدراجها، وحزب الله لا يسعى الى حرب وقد أعرب عن ذلك أمينه العام السيد حسن نصرالله بنفسه، وإسرائيل أيضاً ليس لها مصلحة أن تقوم بحرب الآن، ولكن الوحيد الذي يريد إطالة وتوسيع رقعة الحرب الدائرة منذ شهر أوكتوبر هو نتنياهو للأسباب التي ذكرناها سابقا وهو يدعي أن الوزيرين المتطرفين في حكومته سموتريتش وبن غفير هما من يريدان ذلك وفي حال رفضه فهما سيستقيلان وستسقط حكومته، ولكن في الواقع إنه هو الذي يريد إطالة الحرب متذرعا بمواقف هذين الوزيرين.
الموقف الأميركي غير حاسم إطلاقا تجاه إسرائيل، هذا مع العلم أن الإدارة تكتفي بالتصريحات الكلامية دون القيام بضغوط فعلية على إسرائيل أقلها التهديد بإيقاف المساعدات العسكرية والمالية، وذلك بسبب قرب الإنتخابات الرئاسية حيث يحتاج المرشح الى دعم اللوبي الإسرائيلي القوي جدا، سواء من ناحية تقديم المساهمات المالية للحملة،وهو أمر هام جدا في الإنتخابات، أو أيضا الدعم السياسي.
لذلك يعتقد المراقبون أن هذه الحرب على قطاع غزة والضفة الغربية ولبنان ستستمر حتى موعد الإنتخابات الرئاسية الأميركية، وبعد ذلك وحسب من يفوز في هذه الإنتخابات، فإن نتنياهو سيتخذ القرار الذي يناسبه، هذا مع العلم أن الإدارة الأميركية تعتمد الى حد ما على المعارضة لنتنياهو في الداخل الإسرائيلي التي يشجعها شخصيات يهودية أميركية مثل عضو مجلس الشيوخ بيرني ساندرز الذي يصف نتنياهو بمجرم حرب ينفذ إبادة جماعية ضد الفلسطينيين، أو زعيم الأغلبية الديمقراطية في مجلس الشيوخ تشاك شومر الذي يمثل ولاية نيويورك التي فيها حوالى 20% من اليهود الأميركيين، وكذلك بعض الشخصيات السياسية والإعلامية اليهودية. تأمل الإدارة أن زيادة هذه المعارضة قد تؤدي الى الإطاحة بنتنياهو والإنتهاء من مواقفه المتصلبة وحروبه التي تضر كثيرا بالولايات المتحدة وبإسرائيل بالذات.