بقلم: د. خالد التوزاني
لقد شكّلت الزوايا والطرق الصوفية في التاريخ الإسلامي، عامل توزان واستقرار في أزمنة الفتن والحروب وفي الظروف الطبيعية الصعبة مثل الجفاف والأوبئة..، وسوف أركز في هذا المقال على إسهام شيوخ التصوف في المغرب باعتبار هذا البلد أرضاً للأولياء والصلحاء بامتياز، ودور هؤلاء الشيوخ في صناعة الأمن الروحي وحماية الاستقرار، من خلال نموذج الرحلة العياشية المسماة “ماء الموائد” لأبي سالم العياشي، وهي من نماذج رحلات شيوخ الزوايا في الأزمنة العجاف التي عرفها المغرب في بعض العصور.
تعددت رحلات شيوخ الزوايا في المغرب، نظرا لارتباطها بطلب العلم وأداء فريضة الحج، وتحقيق التواصل الروحي والعلمي بلقاء العلماء والصلحاء، حتى اعتبرت الرحلة “معيارا للحكم على مستوى العلماء والفقهاء” ، فالرحلة “تعادل أكبر الإجازات والشهادات التي يحصل عليها العالم أو طالب العلم” ، بل هي “بمثابة الأطروحات التي يكلل بها علماء وقتنا دراساتهم” ، ولذلك “لا تكاد تخلو ترجمة أديب من الأدباء من تأليف رحلة أو عدة رحلات” ، و”مَنْ ليس له رحلة يُعد علمه قاصرا” ، فلا عجب أن يرحل شيوخ الزوايا في آفاق الأرض، لتختمر التجربة ويكتمل العلم وتصفو النفس.
نظرة الصوفية للرحلة:
وللرحلة عند شيوخ الزوايا خصوصيات فريدة، لَخَّصَها ابن عجيبة في سفر القلوب إلى حضرة علام الغيوب وذلك بالانتقال من أربعة مواطن إلى أربعة أخرى، حيث يسافر أولا: من موطن الذنوب والغفلة، إلى موطن التوبة واليقظة. ويسافر ثانيا: من موطن الحرص على الدنيا والانكباب عليها، إلى موطن الزهد فيها والغيبة عنها. ويسافر ثالثا: من موطن مساوئ النفوس وعيوب القلوب، إلى موطن التخلية منها والتحلية بأضدادها. ويسافر رابعا: من عالم الملك، إلى شهود عالم الملكوت، ثم إلى شهود الجبروت، أو من عالم الحس إلى عالم المعنى، أو من عالم الأشباح إلى شهود عالم الأرواح، أو من شهود الكون إلى شهود المكوّن .
إن رحلات شيوخ الزوايا كما يقول أبو سالم العياشي، لم تكن “للتنزه في البلدان، أو لكروب الأوطان، بل في رضى الرحمن، لأن مقاصدهم دائرة على الجد والتحقيق والمناقشة والتدقيق، لا ينقلون أقدامهم إلا حيث يرجون رضى الله (…) ولا يسافرون بقلوبهم إلا إلى حضرة القريب المجيب، بخلاف العامة: أنفسهم غالبة عليهم، وشهواتهم حاكمة عليهم، إن تحركوا للطاعة خوضتها عليهم، فأفسدت عليهم نياتهم، وأزعجتهم في هوى أنفسهم، تُظهر لهم الطاعة وتُخفي لهم الخديعة” . وذلك، لأن مدار السفر، على “مجاهدة النفوس ومحاربتها في ردها عن عوائدها ومألوفاتها” ، ومن عجز عن ذلك، لم يكن مسافرا بالقلب، وإن انتقل بالبدن. وهكذا، تنبه الصوفية للمعاني الخفية في الأسفار، فعملوا على تسخيرها في تحقيق الأمن الروحي للأفراد والمجتمعات.
وهكذا، ستنصب مداخلتي على نموذج من رحلات شيوخ الزوايا، وإسهامها في تحقيق الأمن الروحي للمغاربة، ويتعلق الأمر بالرحلة المسماة “ماء الموائد” أو الرحلة العياشية نسبة لصاحبها، والتي ألفهاأبو سالم العياشي في زمن كان الأمن مفقودا في مغرب القرن الحادي عشر الهجري بسبب عقارب الفتن التي “طاش لها الوقور (…) ووضع النفيس وارتفع الخسيس، وفشا العار وخان الجار ولبس الزمان البؤس وجاء بالوجه العبوس (…) وطأطأ الحق نفسه وأخفى المحق نفسه (…) ووردت المهالك وسدت المسالك وعم الجوع” ، فكان رحلة هذا الشيخ بابا لاستعادة التوازن وإحياء الأمن الروحي وحمايته، من خلال مظاهر التضحية والإيثار، وسلوك التصوف القائم على وحدة الطرق الصوفية، ثم مبدأ التسليم والتبرك. وقبل استخلاص مظاهر الأمن في هذه الرحلة، نتوقف مع صاحبها برهة من الزمن:
من هو الشيخ أبو سالم العياشي؟
هو عبد الله بن محمد بن أبي بكر العياشي، اشتهر بكنية أبي سالم، من أبرز شيوخ الزاوية العياشية ، ولد سنة 1037هـ بآيت عياش بالقرب من قرية تازروفت.
نمت مدارك أبي سالم في زاوية آيت عياش التي أسسها والده محمد بن أبي بكر (ت1067هـ)، قبل أن يرحل في طلب العلم إلى بلاد درعة حيث الزاوية الناصرية، ثم إلى فاس حيث جامعة القرويين، واشتُهِر بالرحلة في طلب العلم، حيث رحل ثلاث مرات إلى البلاد المشرقية، فلم يترك عالما إلا قصده وسمع منه، ولا متصوفا إلا زاره وتبرك بما عنده، فأفاد واستفاد، حتى اجتمع له من الأسانيد والروايات والإجازات ما لم يجتمع لغيره من معاصريه بدوا وحضرا ، و”اتسمت شخصيته باطلاعها الوافر على علوم الحقيقة والشريعة والأدب، فاهتمت في علوم الحقيقة بالطرق الصوفية والمرويات المسلسلة في إطار الأوراد والتبرك، واهتمت في علوم الشريعة بالعقائد والمعاملات في إطار المذهب المالكي والعقيدة الأشعرية، واهتمت في الأدب بشعر المديح النبوي وبجوانب التعبير عن الذات والمناسبات وبعض الآراء النقدية” . وبذلك، شكَّل أبو سالم العياشي “ظاهرة علمية فريدة في عصره” ، أهلته للتفرغ للتدريس والتأليف سواء في بعض البلاد المشرقية مثل المدينة المنورة، أو في مراكز العلم المشهورة بالمغرب مثل فاس، وكذلك بزاويته في مسقط رأسه بآيت عياش.
توفي أبو سالم العياشي بعدوى الطاعون يوم الجمعة 18 ذي القعدة سنة (1090هـ: 1679م). مخلفا عددا كبيرا من المؤلفات وخزانة عامرة بالكتب، تضمنت نفائس المخطوطات وغرائب الآثار.
وقد عاش رحمه الله في أومنة عجاف سلطت فيها المجاعات والأوبئة على مغرب القرن الحادي عشر الهجري، ونجد أبو سالم العياشي يصف ما حل بالمغرب وصفا مؤثرا بقوله: “في سنة تسع وستين دبت في مغربنا عقارب الفتن، وهاجت بين الخاصة والعامة مضمرات الإحن، فانقطعت السبل أو كادت، وماجت الأرض بأهلها ومادت، (…) وأضرم الجوع في سائر الأرجاء ناره، فتولد منه من الفتك والحرابة ما أعلى تفريق الكلمة مناره، وتطاير في كل أفق شَراره، وأهان خيار كل قطر شُراره، واتخذت البدعة شعارا، والزندقة دثارا، وفر الساكن من بلده، والوالد من ولده” . وغاب الأمن حتى قال الشاعر في درعة:
يَطُوفُ السَّحَابُ بدرعة كما
يطوفُ الحجيج بالبيتِ الحَرَام
تُريـدُ النُّزُولَ فلمْ تَسْتَطِـــعْ
لسفكِ الدِّمَاءِ وَأَكْلِ الحَـــــرَام
تجليات الأمن الروحي في رحلة “ماء الموائد”:
لعب شيوخ الزوايا في المغرب دورا مهما في إحياء الأمل في نفوس المغاربة عبر زرع بذور الأمن الروحي، من خلال الأدوار الروحية والاجتماعية والعلمية والجهادية التي قاموا بها، فأمام الظروف العصيبة التي عرفها المغرب خلال هذه الفترة العصيبة، قرر أبو سالم العياشي خوض الرحلة إلى الحج قصد المثول بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم بكرة وعشيا يستشفع به إلى الله في دفع الأسواء وإزالة الأدواء وإعادة الأمن لأهل بلده، وقد كانت الأهوال عظيمة، إذ يقول: “وأي نفع ودفع أعظم من المثول بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم بكرة وعشيا، في أوقات الشدائد التي كانت عليهم، والأهوال التي صارت لديهم، أستشفع به إلى الله في دفع الأسواء، وإزالة الأدواء” ، فعندما تشتد المحن يفر الإنسان لخالقه ويقطع العلائق ليتصل برب الخلائق، فيستشفع إلى الله بأكمل الخلق محمد صلى الله عليه وسلم. فما هي تجليات الأمن الروحي في رحلة “ماء الموائد”؟
حج البيت ومدح النبي صلى الله عليه وسلم: صبرٌ على الصَّبر
على الرغم من مخاطر الطريق إلى الحج، وتقلب الحُجاجِ بين الخوف والرجاء وتجرّعهم مرارة فقدان الأمن، كما قال العياشي: “ما كنا نسلك هذه البلاد إلا في أيام الموسم، ونعاين ما يقع بها من النهب والسرقة والروعات المتوالية”، ثم يُنَجّي الله الذين أرادهم أن يبلغوا بيته الحرام مصداقا لوله تعالى: “لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاء اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَلِكَ فَتْحاً قَرِيباً”، لتؤسس الرحلة مدخلا للأمن في جوار الحق تعالى أي المؤمن اسما من أسماء الله الحسنى، أي فرارا إليه سبحانه، كما قال الحق تعالى: ففروا إلى الله”، وكما قال رحالتنا العياشي عندما عاتبه إخوانه على المخاطرة بالخروج إلى الحج في الظروف العصيبة التي يشهدها المغرب إبان تلك الفترة، بل منهم من اتهمه – على وجه المزاح- بالفرار، فردَّ قائلا:
وقالوا فَرَرْتَ وليس الفِرار لمِثْلِكَ في القَومِ مِن فِعْلِه
فقُلتُ فَرَرْتُ إلى المُصْطَفَى ومِثْلِي يَفِـرُّ إِلَـى مِثْلِـه
فرض ضرورة نقل هذا التراث من العربية إلى اللغات الأجنبية ومنها اللغة الفرنسية التي صدر بها هذا الكتاب مؤخراَ.