الأديبة والباحثة : إخلاص فرنسيس
اليوم تعمّدت الذهاب إلى المكان الذي تمّ فيه أول لقاء بيننا، برودة الطقس برغم الشمس لفحت وجهي، تعاونت لتجفّف دمعي، السناجب خرجت من أوكارها لتشهد بعيون الدهشة، تراقب وأنا أحفر تحت شجرة الصنوبر. تجمّعت حولي، أراها تتهامس، وتضحك أحيانًا، وأحيانًا تصيبها الدهشة، ماذا أفعل هنا؟ نعم لقد أتيت لأدفن ما تبقّى منك في ذاكرتي. يقولون: إنّ الأماكن أشدّ إخلاصًا من البشر، نعم، هذا المكان بالذات كما عهدته يوم اللقاء الأول، الشجر، الحجر، السور، والعشب الأخضر، كلّها هنا، ما عداك.لا.. لا أنت هنا في قلبي، أسأت التقدير والتذكير، لعلّها الأوجاع التي تعصف بي، أو أمطار الدموع التي منعت عينيّ من الرؤية. أنت هنا وإلا لماذا آتي؟ لا تعتقد أنّي أبكيك، لا ، أنا لا أبكي، إنه غبار الصنوبر، فكما تعلم عندي حساسية شديدة لغبار الصنوبر. أتيت لأكمل مراسيم الدفن، وأتقبّل التعازي. في ذات المكان رحت أخاطب نفسي. ضحك السنجاب الذي يجلس قبالتي، يرمقني بعين الشفقة. رميته بحجر، وصرخت به: اغرب عن وجهي، لا أريد أن أراك أو تراني، وخاصّة الآن، لأنّني سأعلن عليك الغضب. انحنى والتقط بلوطة عن الأرض، وأخذ يقضمها بطريقة آلية، ويرمقني بين الفينة والأخرى بطرف عينيه، وكأنّه يقول لي: افعلي ما شئت، اسكبي جام غضبك عليّ، مسكينة أنت. من تواري تحت الثرى حبيبًا على قيد العشق في صدرها، تكذبين نعم.
لا، أنا لا أكذب، ألا ترى يدي الملطّخة بالدماء؟ ألا ترى النعش والزهور؟ انظر، انظر حتى أنّي كتبت قصيدة رثاء. لقد أعددت كلّ شيء. لقد قمت بكلّ المراسيم.
قهقه وكأنه يقول: وكأنّي لا أعرفك. وراح يدور من حولي، فتخيّلته رجلًا ذا شاربين وذقن بيضاء طويلة، وجبهة عريضة، وظهر مقوّس، يمسك بإحدى يديه عكّازًا من جذوع الشجر اليابسة، والأخرى يعقدها خلف ظهره. بدا لي رجلًا من الحكماء، ربما الصينيون الذين قضوا حياتهم في التصوّف واستحضار الطاقة والتأمّل. لم يضف أيّ شيء، سوى التحديق، وتغيرت ملامحه من السخرية والشفقة إلى الجدية. تجاهلته، لا أريد أن أخوض معركة فلسفية أخرى، أريد أن أنتهي من مراسم الدفن، وأعود إلى طبيعتي، إلى ذاتي. أشعلت بعض الشموع، وشغلت موسيقا فريد الأطرش وأغنية “عِشْ أنتَ.. إنّي مِتُ بعدِك” ولكن أنا لم تبق أية بقايا من الغرام في مهجتي، لم يبقَ هناك أيّ شيء، ختمت قلبي، وأحكمت إغلاقه بعدك، نعم بعد أن عرفتك. هذه باقة القرنفل، لن أختار الأزرق، فأنا أعشقه، ولا أريد أن أتوقّف عنده بعد دفنك. نعم القرنفل كافٍ، لم أنتبه لحشد السناجب الذي بدا يقفز حولي، يطلُ من على غصون شجرة البلوط القريبة، ثمّ يرحل. تمنيت أن أكون واحدًا منها، أعيش مع الشجر، وأرقص تحت أشعّة الشمس بعد المطر، بلا حبّ ولا عشق ولا شوق ولاحنين. لقد حفرت بما فيه الكفاية، آن أن أسجي الميت في مثواه الأخير. بيدي دم قان على العشب الأخضر، شعرت ببرودة ودوران خفيف، كان البرد يغلف صدري، بدأت أرتجف، لعلّه الحزن العميق، لا.. لعلّه منظر الدماء، لا.. لا، ماذا هناك إذن؟ انتابتني قشعريرة غمرتني من رأسي إلى أخمص قدمي، بدأت أشعر بالوهن في جسدي، تراخت قدماي، لم تعودا قادرتين على حملي، حنقتُ على ضعفي، وبختَني سرًّا لجبني، ولضعف قلبي ورقّته في هذه المواقف، قلبي.. قلبي. عندها فقط أدركت أنّي كنت أحمله بين يديّ، وأنّي انتزعته من صدري. أسرعت في وضعه داخل الحفرة، أطمره بالتراب بسرعة قبل أن تخور قواي، كان مثل العصفور ينتفض، ما زال ينبض، ما زال يصرخ باسمك، ما زلت تسكنه، لم أستطع إسكاته إلا بعد جهد، يدي مبلّلة بدماء العشق والتراب، لفظت آخر أنفاسي، وأنا أردّد مراسيم الدفن:” من العشق للعشق، ارقد بسلام يا حبيبي “ اليوم في هذه اللحظة لحظة كتابة هذه الكلمات أنثى جديدة ولدت، وكانت أولى صرخاتها: كرامتي فوق قلبي وذكرياتي، وتمدّدت بين زهور القرنفل غارقة في بحر أحلامي..