بقلم: د. حسين عبد البصير
تكملة للعدد الماضي: تاريخ مصر في أرض النوبة
تعتبر أرض النوبة من أغنى المناطق الأثرية على ضفاف نهر النيل، وكانت توجد بها حضارات عظيمة، وعثر بأرضها الممتدة على العديد من البقايا الأثرية بداية منذ عصور ما قبل التاريخ مرورًا بالعصور الفرعونية واليونانية-الرومانية والمسيحية والإسلامية ووصولاً إلى العصر الحديث. وجغرافيًا تمتد منطقة النوبة من جنوب مصر إلى عمق أرض السودان وتحديدًا من مدينة أسوان إلى الدبة على وادي نهر النيل الخالد. ويتحدث أهل هذه المنطقة الحضارية العريقة اللغة النوبية. وتقسم عادة النوبة إلى النوبة السفلى -والتي تمتد من الجندل الأول إلى الجندل الثاني على نهر النيل- والنوبة العليا التي تمتد في أرض السودان الشقيق. ووفقا لعلماء الآثار والمؤرخين، فإن النوبة تمتد عادة إلى أواسط السودان لتشمل المناطق التي كانت تحت حكم دولة كوش المعروفة التي كان مقرها في مدينتي نباتا ومروي في الألفية الأولى قبل ميلاد السيد المسيح وبعد ميلاده عليه السلام. وشغلت تلك المنطقة حضارات عديدة منذ عصور ما قبل التاريخ وتكونت بها ثقافات محلية مدهشة وامتد منها عبق الحضارة المصرية القديمة إلى أطراف وأعماق القارة الأفريقية. وفى عصور الدولة القديمة والدولة الوسطى والدولة الحديثة الفرعونية، شهدت منطقة النوبة وجودًا مصريًا متميزًا ومزدهرًا. وتشبع ذلك الجزء من النوبة بالحضارة المصرية القديمة مما أدى في عصر الانتقال الثالث إلى قيام أهل كوش بالسيطرة على الحكم في أرض النيل وتكوين ما يعرف بالأسرة الخامسة والعشرين مقلدين بذلك سير فراعنة مصر العظام أمثال الفرعون المحارب الملك تحتمس الثالث والفرعون الشمس الملك أمنحتب الثالث ونجم الأرض الفرعون الأشهر الملك رمسيس الثاني. وبحلول العصر المتأخر، بسطت مصر نفوذها على أرض النوبة إلى أن دخلت الحضارة الفرعونية إلى مرحلة الذبول والنسيان. ومع دخول الإسكندر الأكبر أرض مصر، تحولت مصر إلى جزء من العالم الهيللينستي، ثم ازدهرت مع عصر البطالمة، وصارت جزءًا مهمًا من العالم الروماني والبيزنطي ثم من العالمين المسيحي والإسلامي إلى وقتنا الحالي.
حملة اليونسكو لإنقاذ آثار النوبة
نتيجة لبناء السد العالي بمدينة أسوان، كما سلف القول، فقد غمرت بحيرة السد مواقع أثرية مهمة وامتدت المنطقة التي ستغمرها مياه بحيرة السد العالي إلى مسافة كبيرة. وتنبهت الحكومة المصرية إلى الخطر الذي يحيق بآثار مصر في بلاد النوبة، فما كان منها إلا أن تدق ناقوس الخطر وتدعو الأمم في جميع أنحاء العالم بأن تمد يد العون لمصر للمساعدة في إنقاذ آثار مصر في بلاد النوبة لإنقاذ هذا التراث الخالد الذي لم يكن واجبا وطنيا يخص مصر العظيمة وحدها، بل كان واجبا إنسانيا يخص العالم أجمع. وكان لبناء السد العالي أكبر الأثر على تطور البحث الأثري في بلاد النوبة وقيام العديد من البعثات المصرية والدولية الأثرية بالتنقيب عن الآثار في بلاد النوبة بكثافة غير مسبوقة. وقامت كل بعثة بإجراء أبحاث أثرية كاملة وتسجيل جميع نتائج الحفائر الأثرية التي كان يتم العثور عليها بكل دقة وعناية. وفى وقت وجيز، نجحت منظمة اليونسكو في تكوين حملة عالمية للحصول على المعونات المالية اللازمة والخدمات والخبراء. وفى تلك المناسبة، أقيم حفل كبير في المقر العام لمنظمة اليونسكو العالمية بباريس للإعلان عن النداء العالمي للإسهام في حملة إنقاذ آثار بلاد النوبة.
ثروت عكاشة «أبو الثقافة المصرية»
ولم يكن لهذا العمل العملاق أن ينجح هذا النجاح الساحق أو حتى يتم التفكير فيه دون وجود قامات ثقافية مصرية عظمى نشأت ونبتت في أرض مصر العاشقة والمعشوقة وعشقت أرض مصر الخالدة وأهلها وتاريخها وآثارها وحضارتها. فقد كان لرجال مصر العظام الدور الأساسي في هذا الإنجاز الحضاري الكبير، ونذكر منهم بكل تأكيد وفخر واعتزاز الدكتور ثروت عكاشة والأستاذ عبد المنعم الصاوي والدكتور محمد جمال الدين مختار والدكتور شحاته آدم والدكتور عبد المنعم أبو بكر وغيرهم من الأسماء اللامعة العديدة التي لا تسقط من الذاكرة في هذا العمل الملحمي الفريد. غير أن الفضل يرجع أولا وبشكل أساسي إلى دينامو العمل وشعلته التي لم تكن تخبو أبدا الدكتور ثروت عكاشة القامة الثقافية الكبرى في مصر في منتصف القرن العشرين وما بعده وفى حياة المصريين الثقافية. ويتضح من خلال كتاب الدكتور عكاشة المعروف «إنسان العصر يتوج رمسيس الثاني» أهمية الدور المحوري الذي بذله ذلك المثقف العملاق من أجل إقناع الرئيس جمال عبد الناصر بضرورة إطلاق حملة دولية لإنقاذ آثار النوبة ومساهمة منظمة اليونسكو العالمية في هذه الحملة التي لم تكررها منظمة اليونسكو بهذا الشكل المذهل وبهذا النجاح غير المسبوق من بعد. واختار القدر أن يعتذر الرئيس جمال عبد الناصر عن حضور الاحتفال بنقل معبدي «أبوسمبل» إلى موقعهما الجديد وينيب عنه الدكتور عكاشة الذي دخل التاريخ من أوسع أبوابه بهذا الحدث العظيم وأعماله الفريدة والمهمة الأخرى من أجل تأسيس بنية ثقافية قوية لأركان الثقافة المصرية، فكان بحق الأب المؤسس للثقافة المصرية ليزيد على معماره وزراء ثقافة مصر اللاحقون في بناء وإعلاء صرح الثقافة المصرية من بعده حتى يصل إلى علاه ويتجه باستمرار إلى مبتغاه حيث حب الحق والخير والجمال. لقد كان نقل آثار النوبة ملحمة تاريخية مثيرة للإعجاب، وسوف يظل التاريخ يذكرها بأحرف من نور مسجلا بفخار أسماء البنائين المصريين العظام وعلى رأسهم المثقف الموسوعي والرائد المؤسس الدكتور ثروت عكاشة «أبو الثقافة المصرية» بامتياز.
معبدا أبو سمبل
تقع مدينة أبو سمبل إلى الجنوب من مدينة أسوان على الضفة الغربية لنهر النيل الخالد في النوبة المصرية بالقرب من حدود مصر الدولية مع دولة السودان الشقيق. وبُنى في «أبو سمبل معبدان منحوتان في الصخر يرجعان إلى عهد الفرعون الأشهر رمسيس الثاني من الأسرة التاسعة عشرة من عصر الدولة الحديثة الفرعونية.
وكان معبد أبو سمبل الكبير واحدًا من أربعة معابد بنيت خلال فترة حكم الملك رمسيس الثاني كوحدة واحدة، والثلاثة الأخرى هي: معبد وادي السبوعة (مقر المعبود آمون رع) ومعبد الدر (مقر المعبود رع حور آختي) ومعبد جرف حسين (مقر المعبود بتاح). وقد أمر الفرعون رمسيس الثاني مهندسيه البارعين بالبدء في بناء معبدي «أبو سمبل» في السنوات الأولى من فترة حكمه العريق واكتمل العمل فيهما في العام الخامس والعشرين من حكمه المديد.
معبد أبو سمبل الكبير
يطل معبد «أبو سمبل» الكبير على بحيرة ناصر في منظر جمالي رائع قلما أن يتكرر في مكان أثرى آخر حيث تتزاوج زرقة السماء الصافية بزرقة المياه الرائقة ورمال صحراء مصر الصفراء النقية بصخور المعبد الداكنة وخضرة الأشجار والنباتات الموجودة في المنطقة بسمرة أبناء مصر المميزة. ويعتبر معبد أبو سمبل الكبير من روائع فن العمارة في مصر القديمة. وتتصدر تماثيل الملك رمسيس الثاني الأربعة الجالسة واجهة المعبد التي تشبه الصرح ويبلغ كل تمثال من هذه التماثيل حوالي 22 مترًا، ويحيط بهذه التماثيل تماثيل أصغر واقفة تجسد أم الملك وزوجة الملك، وتماثيل أكثر صغرا تصور أبناء وبنات الملك الممثلين واقفين بين قدميَّ الفرعون. وحدث زلزال في العصور القديمة أثر على التمثالين المحيطين بالمدخل إلى المعبد مما أدى إلى تساقط الجزء العلوي من التمثال الجنوبي، بينما عانى التمثال الشمالي منهما بشكل أقل ضررا من التمثال السابق وتم ترميمه في عهد أحد خلفاء الملك رمسيس الثاني، وهو الملك سيتي الثاني في نهايات عصر الأسرة التاسعة عشرة. وفوق المدخل يوجد كورنيش ضخم يحتوي على اسم الملك رمسيس الثاني. ويضم جانب المدخل على اليسار نقشًا يضم ألقاب الملك. ثم أجزاء المعبد المعمارية وصولاً إلى قدس الأقداس حيث يوجد تمثال الملك رمسيس الثاني بين تماثيل آلهة مصر الكبرى في تلك الفترة المهمة من تاريخ مصر الفرعونية.
ومن أروع معالم معبد «أبو سمبل» الكبير هو اختراق شعاع الشمس باب المعبد ليصافح وجه رمسيس الثاني مرتين من كل عام في ظاهرة هندسية وفلكية تثير الانبهار باستمرار. ويؤكد هذا على عبقرية المصري القديم التي لها أدلة كثيرة ما تزال تحير العالم كله إلى اليوم الحالي. وتعد ظاهرة تعامد الشمس على وجه تمثال الملك رمسيس الثاني بذلك المعبد المهم حدثًا فريدًا ينتظره عشاق مصر في كل مكان في العالم.
التكملة في العدد القادم