بقلم: د. حسين عبد البصير
سيناء بوابة مصر الشرقية
سيناء من أهم المناطق الأثرية المصرية. وبدأت شركة قناة السويس حفائرها في القرن التاسع عشر. وتحت الاحتلال الإسرائيلي، جرت حفائر غير قانونية في سيناء. ومع عودة سيناء إلى الوطن بعد انتصارات أكتوبر المجيدة، توالت جهود الأثريين المصريين في اكتشاف آثار سيناء بقيادة عالم الآثار المصري الكبير الدكتور محمد عبد المقصود وفريق عمله، مع البعثات الأثرية الأجنبية في مواقع شرق وغرب قناة السويس بالمدخل الشرقي لمصر ضمن مشروع إنقاذ آثار شمال سيناء (ترعة السلام).
كان من بين الاكتشافات الأثرية المهمة التي توصل إليها الدكتور عبد المقصود وفريقه اكتشاف طريق حورس الحربي القديم الممتد من مصر إلى فلسطين منذ أيام الفراعنة. وتعد منطقة حبوة 1 وحبوة 2 وحبوة 3، شرق قناة السويس إلى شمال شرق القنطرة شرق، هي ثارو القديمة، وزارة الدفاع الفرعونية، التي صورها الفنان المصري القديم على النقش الخاص بالملك سيتي الأول على الجدار الشمالي الخارجي لصالة الأعمدة الكبرى بالكرنك. وكان هذا الموقع هو مدخل مصر الشرقي وبداية انطلاق الجيوش المصرية المحاربة في آسيا. وحاصر الملك أحمس الأول الهكسوس عند حبوة (ثارو) لقطع الإمدادات عن عاصمتهم أفاريس بالشرقية. وحمست عالمة الآثار الفرنسية كريستيان ديروش نوبلكور الأثري الشاب محمد عبد المقصود للقيام بهذا الاكتشاف عند بداية عمله في الآثار.
وعثرنا على اكتشافات أثرية مهمة في مواقع عديدة مثل تل حبوة 1 وتل حبوة 2 وتل حبوة 3 وتل البرج والتل الأبيض وتل الكدوة وتل المسخوطة وتل أبوصيفى (قلعة سيلا الرومانية) وتل دفنة وتل الحير ومدينة الفرما (بلوزيوم) وتل المخزن وغيرها. وتظهر هذه الاكتشافات عظمة وتاريخ العسكرية المصرية المشرف منذ الفراعنة. وكانت الاكتشافات عبارة عن خنادق وقلاع مدعمة بأبراج وموانئ وحصون عسكرية، تم الكشف في بعضها عن مخازن مركزية ومناطق صناعية ومراكز تموين الجيوش وصوامع غلال وأفران خبز ومساكن ومخازن وقصور ملكية خاصة بالملك تحتمس الثالث ورمسيس الثاني وبسماتيك الأول، ومعابد ومدن محصنة وأسوار ومناطق سكنية ومقابر وتماثيل، على شكل أبو الهول للملك رمسيس الثاني، ولوحات حجرية منقوشة ومسارح وكنائس وأضرحة وخزانات للمياه وحلبة لسباق الخيول وغيرها.
وقامت هيئة الآثار المصرية (المجلس الأعلى للآثار بعد ذلك) باسترداد جميع القطع الأثرية المصرية المنهوبة من المواقع الأثرية في شمال وجنوب سيناء من إسرائيل. فتحية حب وتقدير لكل الجهود المصرية الوطنية المخلصة في الحفاظ على آثارنا واسترداد آثارنا الغالية.
عودة آثارنا نصر لمصر
تتواصل جهود الدولة المصرية العريقة لإعادة عدد مهم من الآثار المصرية الشهيرة في الخارج مثل رأس نفرتيتي وحجر رشيد لمصر. وأثمن جهود الدولة المصرية بكل مؤسساتها المعنية في هذا الملف المهم.
إن سرقة الآثار المصرية كانت منتشرة في مصر القديمة؛ فقد قام بعض اللصوص بسرقة مقبرة الفرعون الذهبي توت عنخ آمون وقام حراس الجبانة بالقبض عليهم ولولا هذا لما نجت مقبرة الفرعون الصغير وما اكتشفها هوارد كارتر في عام 1922 ميلادية لتصبح أهم اكتشاف أثري في القرن العشرين في العالم كله، وكذلك هناك بردية سرقة المقابر من عصر الرعامسة والتي تتحدث عن سرقات بعض مقابر الفراعنة في البر الغربي لمدينة الأقصر في مصر الفرعونية. وبعد عصر الفراعنة زادت سرقات الآثار بشكل ليس له مثيل؛ وذلك نظرًا لأهمية آثار الفراعنة ومدى السحر والغموض والجمال الذي تحتويه آثار الفراعنة الساحرة. وصارت هناك عصابات دولية تقوم بسرقة الآثار وتهريبها والاتجار بها في الخارج، غير أن القبضة الأمنية لأجهزة الأمن المصرية مع وحدات المنافذ الأثرية في كل المنافذ المصرية والجمارك المصرية تحبط عددًا كبيرًا من كل هذه المحاولات التي تحاول استنزاف آثارنا المصرية الغالية. وتقوم الدولة المصرية من خلال التنسيق الكامل بين وزارة الآثار ووزارة الخارجية وعدد كبير من أجهزة الدولة المعنية بجهود كبيرة في استرداد الآثار المصرية من الخارج وتتأخذ عددًا كبيرًا من الإجراءات التي تحقق لها ذلك. وقام المجلس الأعلى للآثار باسترداد عدد كبير من الآثار المصرية من الخارج وذلك من خلال تأسيس الإدارة العامة للآثار المستردة وقامت باسترداد عدد كبير من الآثار تبلغ حوالي ستة آلاف قطعة من عدد كبير من الدول في عهده. وتم تأسيس اللجنة العليا لاسترداد الآثار المصرية والتي كانت تضم عددًا كبيرًا من عمالقة الآثار والقانون الدولي والدبلوماسية والقانون وقامت بدور عظيم، وتوقفت بعد أحداث ثورة 25 يناير 2011 ثم عادت إلى العمل منذ فترة قريبة. وقد شرفت بالعمل في استرداد عدد من القطع الأثرية حين كنت أعمل مديرًا عامًا لإدارة المنظمات الدولية واليونسكو وكنت أساهم في العمل في الإدارة العامة للآثار المستردة.
ويمكننا الإفادة من آثارنا في الخارج من خلال التفاوض مع المتاحف والمجموعات الخاصة التي بها آثارنا للحصول على نسبة من مبيعات التذاكر والنماذج الأثرية التي يتم بيعها في الخارج من خلال تطبيق قانون حماية الملكية الفكرية عليها، ومن خلال هذا القانون فلابد من الحصول على موافقة مصر أولاً على الإنتاج ثم الاتفاق على نسبة من بيع النماذج المطابقة للأصل في الخارج، فضلاً عن الإفادة من عوائد المعارض الأثرية التي تقوم بها هذه المتاحف في الخارج، فضلاً عن ضرورة وجود ممثلين لوزارة الآثار المصرية في هذه المتاحف والهيئة التراثية وتمثيل الأثريين المصريين بشكل عادل في مجالس إداراتها.
إننا قادرون على استعادة آثارنا من الخارج. وقامت الإدارة العامة للآثار المستردة باسترجاع عدد كبير من الآثار من متاحف مهمة مثل متحف المتروبوليتان في نيويورك، وهي تقوم بدور مهم وفعال وتراقب كل صالات المزادات وتطالب بعودة آثارنا المسروقة بها من خلال التعاون الوثيق مع وزارة الخارجية المصرية وكل الجهات المعنية في الدولة المصرية العريقة.
وكم أنا سعيد جدًا بتغليظ العقوبات ورفع قيمة الغرامات المالية على من يقوم بسرقة الآثار المصرية وتهريبها وبيعها في الخارج، غير أني أدعو إلى اعتبار سرقة الآثار خيانة عظمى حتى يتم ردع كل من تسول له نفسه بسرقة آثارنا الغالية. حفظ الله مصر وآثارها الخالدة من السرقة وجعلها فخرًا لنا ولتاريخنا.
الذهب
اكتشف الفراعنة الذهب منذ أقدم العصور. وكانوا أول من استعمل الذهب. واكتشفوا نحو 125 منجمًا بالصحراء الشرقية ومنطقة البحر الأحمر والنوبة، والتي تعني أرض الذهب باللغة المصرية القديمة. وكانت مصر الفرعونية غنية بالذهب. وقد قال أحد حكام الشرق الأدنى للملك أمنحتب الثالث «أبعث لي بكمية من الذهب لأن الذهب في بلادك مثل التراب». وتشير البردية الذهبية في متحف تورينو في إيطاليا من عهد الملك سيتي الأول من الأسرة التاسعة عشرة إلى مناجم الذهب المنتشرة بالصحراء الشرقية، أما الاكتشافات الأثرية المتعاقبة فتعكس تمتُّع المصريين القدماء بخبرة هائلة في مجال التنقيب عن الذهب واستخراجه من عروق الكوارتز، فضلاً عن خبرتهم الكبيرة في مجال تصنيعه. واستخدموا النار والغاب المصنوع من الخزف لصهره. وتشير المناظر الموجودة على جدران المقابر المصرية القديمة إلى أن المصريين القدماء أدخلوا النار في صناعة الذهب. وتصور هذه المناظر العمال وهم يصهرون المعدن في أوعية كبيرة من الخزف يقف حولها العديد من العمال وهم ينفخون النار بأنابيب طويلة من الغاب، وأطرافها من الخزف الذي لا يحترق، ثم يصبون الذهب بعد صهره في قوالب لعمل الحلي. وكانت التقنيات الأولية المستخدمة في صناعة الذهب في المراحل الأولى عند المصريين القدماء لم تكن تعتمد على النار، بل كانت تعتمد على تحويل الأشكال وتغييرها بواسطة المطرقة والسندان وأدوات الضغط. وكانت أنامل الأقزام وراء دقة صياغة المشغولات. وصنع الفراعنة من الذهب أشياء كثيرة. وهناك قبة ذهبية ضمن آثار مقبرة الملكة حتب حرس، والدة الملك خوفو وزوجة الملك سنفرو، وقناع الملك توت عنخ آمون الذي يزن نحو 11 كيلوجرامًا وتابوته الذي يزن حوالي 110.5 كيلوجرامات من الذهب الخالص. وارتدى الفراعنة الكثير من الذهب في مجوهراته الثمينة.
تابوت نجم عنخ المذهب معروض بعد استرداده من أمريكا في متحف الحضارة بالفسطاط.
تم استخدام الذهب في منحوتاتهم الجميلة. وتم تخصيصه لكبار رجال الدولة. ودفن الفراعنة الذهب معهم. ولم يعبد الفراعنة الذهب وقدسوا اللون الذهبي الذي كان يرمز إلى لون أشعة الشمس. وارتبطت صناعة الذهب عند المصريين القدماء بعقيدة الخلود؛ لأن لونه لا يتغير بمرور الزمن. وكانت صناعة الذهب من أهم الحرف المصرية وارتبط الذهب بالطقوس الجنائزية والمعتقدات. ويحتل الذهب في الحضارة الفرعونية أهمية كبيرة في الحياة الاجتماعية وطقوس الموت والحياة، واشتهرت مصر القديمة بمناجمها التي استخرج منها الذهب بوفرة والمصنوعات الذهبية والحلي الفرعوني. وهناك قطع مهمة من حُلي الفراعنة جاءت من تانيس (صان الحجر) مثل القناع الذهبي للملك بسوسنس الأول من الأسرة الحادية والعشرين، ومجموعات عديدة من الأواني الذهبية، وكذلك التاج الذهبي للأميرة سات حتحور يونت، فضلاً عن أساور الملكة حتب حرس من الأسرة الرابعة، وأساور من عهد الملك جر من الأسرة الأولى.
لقد كان الذهب عند الفراعنة من الأشياء المهمة التي يزينون بها حياتهم وعالمهم الآخر، فعاشت كنوزهم الذهبية من مصر الفرعونية قادمة إلينا من عالمهم البعيد كي تسحر عقولنا بجمالها الأخاذ الذي ليس له مثيل في العالم كله. إنه عالم الفراعنة الساحر.
التكملة في العدد القادم